No-IMG

هجرتي من افغانستان أیام الحرب الصلیبیة الروسیة

بمناسبة هزيمة أمريكا النكراء في أفغانستان و هروب مليشياتها الإرهابية .

إهـــــــــــــــــداء...

إلى أمي المجــــاهدة ، التي وقفت شامخـــة رغم إعصـــــار الغربة الكئيبـــــــــة ، وطوفان الهموم العسيرة ولوعة الفراق أيام الهجرة الحزينة!

إلى كل شاب مسلم في الأرض يبحث عن طريق العزة وعودة الإسلام من غربته الطويلة ...

إلى إخواني الذين بذلوا أرواحهم ، وسكبوا دماءهم كي ترتفع راية الإسلام وتنبت أشجار العزة في بلادنا المقهورة ...

إلی المهاجرین الذین ترکوا دیارهم و بیوتهم و غادروا أوطانهم ، و أثاروا الحیاة تحت مخیمات ساخنة...

إلى الذين فتحوا الطريق أمام صهيل القادمين من خلف قوافل الغبار ...

                      أقدم

كان فصل الشتاء،  في الصباح قمت مبكرا وخرجت من البيت ، رأيت الثلج يغطي الأرض حتى مالت الأشجار إلى الأرض  من ثقله! أدور نظراتي بين السماء والأرض وأنا جالس في بهو المنزل ، كنت طفلا في العقد الأول من عمره ، طفولتي لا تسمح كي أعي بأن هذا اليوم مختلف عن بقية الأيام في التاريخ وأن البشرية على أعتاب الدخول في تاريخ آخر ، وسينهار جدار (برلين ) ويظهر الإسلام كمعجزة خالدة ونظام سياسي بإمكانه أن يقود العالم البشري مرة أخرى ...

رجع والدي من صلاة الفجر ، دخل المنزل ، آثار القلق والاضطراب والهلع ظاهرة على ملامحه، يعض شفته السفلى أحيانا ويقلب كفيه ، عمي كان ضيفا عندنا هذه الليلة ، دخل والدي بيت الضيافة مع خطوات مبعثرة ، جريت ورائه فإذا هو يخاطب عمي قائلا :

-هل سمعتم ؟

-لا‍‍!

-في منتصف هذه الليلة هجمت مئات ألف جندي روسي مع عشرات الآلاف من الطائرات الحربية والنفاثة والدبابات والمدرعات على أفغانستان وإلى طلوع الفجر انتشروا في طول البلاد وعرضها ، وقتلوا العميل (حفيظ الله أمين ) ونصبوا مكانه عميلهم الآخر   (ببرك كارمل)  .

قفز عمي من مكانه قائلا :

-أوه ! فقدنا أفغانستان ! ذهبت أفغانستان إلى طريق بخارى.

- والدی قال: في صلاة الفجر كان الناس قليلون في المسجد ، كل واحد يراقب التطورات المستقبلية ، عندما خرجنا من المسجد سمعنا صوت طائرات و مدرعات روسية.

- عمی قال: ماذا نفعل ؟

- والدی:

بعض الناس في المسجد قالوا : إن الروس إذا أريق دمها في أي بلد لن تخرج منه !

- عمی:

أيام أن كنت أخدم في الجيش كجندي  ، والد ببرك كارمل، كان ضابطنا ، فكان الشباب يقولون أن واحدا من أبناء ضابطنا يدرس في روسيا وهو كان ببرك كارمل، ثم بعد فترة سمعنا أن ببرك قال :  أنا لو أصبحت رئيسا على أفغانستان أزیح من هذا البلد كلمة ( لا إله إلا الله ) ‍!

طال الحوار بينهما وتتسمر نظراتهما أحيانا على الأرض والجدران ... ماذا نفعل ؟ ماذا نفعل ؟

خرجت من المنزل رأيت بعض الناس قد حملوا أثاث منازلهم على عربات يجرونها كي يعرضوها في السوق للبيع استعدادا للهجرة!

قلت لزملائي الأطفال :

-أبوي يقول : هذه الليلة جاءت الروس إلى أفغانستان ... قال أحدهم :

-نعم ‍ نحن سمعنا صوت الدبابات في الليل وهم بعد أيام يدخلون جميع البيوت ويقتلون الناس ... وقال الآخر :

-نحن بجنب بيتنا مزرعة للقمح إذا جاءت الروس نختفي فيها!

خرجت مع والدي و أمي إلى الشوارع رأينا وجوها لأول مرة نراها ، وجوها حمراء قبيحة وعيونا زرقاء وشعورا شقراء على سيارات مصفحة لأول مرة أراها، لها سلاسل وفوهات ولها صوت مزعج وكريه ... الناس ينظرون إليهم بنظرات الاشمئزاز والتقزز والتنفر .

- أمي قالت :

هذه دبابة وهؤلاء روسيون ، وكنت أدعو الله تعالى أن لا أرى كافرا في حياتي ، لا أدري ... ربما ارتكبنا معصية فابتلانا الله بهؤلاء ... 

- والدي قال لأمي :

لو تسمحين أنا أذهب إلى البيت وآخذ الفأس وأقتل واحدا من هؤلاء ثم بعد ذلك لا بأس أن يقتلوني.

- أمي قالت:

انتظر حتى نرى ماذا يحدث في المستقبل .

العالم تلقي هذا الحادث العظيم بكل هلع وخوف وذعر، وحق لهم هذا التلقي،  واعتبروا القضية منتهية و مقاومة هذا الزحف نوعا من الجنون ، واعتبروا روسيا وجيشها جنكيز خان الثاني مع جيشه ،  وانه لا يمكن أن يقف على وجهه أي شيء، أعلنت الولايات المتحدة الأمريكية أن : (... اجتياز القوات الروسية بوابة (خيبر ) في بيشاور معناه إعلان الحرب ضد الولايات المتحدة ) !!! وبوابة خيبر تقع في باكستان قريبا من ( بيشاور ) ومعني هذا الكلام أنه لا بأس أنكم احتللتم أفغانستان فهي لكم !!!

غافلين عن أن هناك قوة أخرى وطاقة أخرى تحملها صيحات (الله أكبر ) التي تهتف بها أسود في عرن جبال هندوكش ، أسود سيكشفون زيف كل تحليلاتهم السياسية والاقتصادية والجغرافية والدولية  و... و... و... الخ و سيقارعون هؤلاء الغزاة المحتلين  في أحضان تلك الجبال الشامخة ، وسيغيرون وجه التاريخ ويصنعون لهم تاريخا آخر غير الذي ألفوه وغير الذي عرفوه عن آباءهم الأولين،  وسيكسرون هيكل هذا العفريت المجنون الذي منذ قرن من الزمان يبتلع بلاد المسلمين  واحدا تلو الآخر  وسيحطمون هذا الطلسم الساحر الذي طالما أرهب العالم البشري ، وسيفككون عظام أكبر قوة على وجه الأرض في ميزا ن هؤلاء!  وسيرغمونها بالفرار من هذا البلد ...

لم يعرفوا أن هناك في جبال أفغانستان رجال سيقفون على وجه هذا الزحف ويرغمونه بالهروب مع طائراته ومدرعاته وأساطيله الحربية وأسلحته الحديثة  أمام صيحات الله أكبر ( القنبلة الإسلامية)  ، ويقاتلون دفاعا عن النوع الإنساني و بالنيابة عن العالم الإسلامي والعالم البشري أجمع ، وسيقيمون ثورة في أفغانستان تعصف بعروش عباد الشيوعية في معبدهم  ( ماسكو ).

لم يعرفوا أن الإسلام سيظهر في المجتمع الإنساني من جديد ويثبت وجوده ... يثبت أنه بإمكانه أن يصنع العجائب مرة أخرى  بعد 14 قرنا من الزمان ، بعد أن طارده العلمانيون وأدعياء الديموقراطية وحرية الأديان في كل بلد، ووجهوا ضده معاول السحق وضربات الإبادة في كل مكان ، ويلقن الطواغيت المغتصبين بأن زمام القيادة سيكون بيده في المستقبل.

نعم ! احتلت الروس أفغانستان ، وبدءوا يطبقون النظام الشيوعي الماكر وفتحوا باب الظلم والتعذيب والسجن والاضطهاد والتشريد والإعدام على وجه المسلمين !  وبالمقابل أعلن العلماء الجهاد عبر المنابر أيام الجمعة ، ودعوا المسلمين بالجهاد ضد هذا الزحف الصليبي الأرثوذكسي اليهودي الروسي الذي لا يقف عند حد أفغانستان ، بل أقدامه في أفغانستان وعيونه إلى الحرمين الشريفين!

وقام الشعب( عندما نقول "الشعب" لانقصد به ذلک الصنم الذی نحتته جاهلیة القرن العشرین) بدایة من أحضان جبال بدخشان الشامخة إلى وهاد بغلان و من بيداء قندهار إلی مروج ننجرهار،  ضد هذه القوات الكافرة المحتلة وحكومتها العميلة مع أيد فارغة، رافعين هتافات (الله أكبر ) .

المنجل و المطرقة اللذان جعلتهما الشيوعية شعارها كي تخفي وراءه وجهها الكريه أصبحا بلاء عليها، فقد حملتهما الطبقة العاملة والفلاحون الذين تتغنى الشيوعية بالدفاع عنهم وطالما طاردهم المتمولون الروس في حقولهم الزراعية تحت غطاء التسوية بين الملاك والعمال! ويضربونها على رأسها!

لقد عمت  وحشية روسيا وظلمها أفغانستان كلها !  وبدأت تفوح دما، وبدأت الهجرة إلى باكستان، وفي صبيحة كل يوم تفقد أفغانستان، مئات بل آلافا من أحبابها وتودعهم إلى أرض الهجرة !

بعد عدة سنوات و مع صغر سني بدأ العدو يهددني  أيضا! وأبناء عملاءهم في الأزقة والشوارع ينادونني بـ ( فرخ الإخوانيين

وهذه التهديدات تشتد يوما فيوما حتى في عام هجرتي وصلت إلى أوجها ، وقد حبسوني يوما في المدرسة داخل دورات المياه بدليل أني أتدخل في أمور سياسية ! وقالوا هذا الحبس سيكون درسا لك كي لا تتجرأ مرة أخرى إلى التدخل في مثل هذه الأمور.

ودائما يهددون والدي بأن ابنك إخواني ويلقي محاضرات على زملائه في الفصل في غياب المدرس .

روسيا، مستمرة في غطرستها ولا تزال تتعسل بأحلام ( ماركس ) و ( لنين ) الوهمية وتحاول كي تحققها عبر أفغانستان !

أخيرا قبضوا علی والدی وسجنوه فی سجن مکتب الاستخبارات (خاد) وبعد تعذیبات مرهبة أفرجوه عنه ، وهذه التعذیبات بما فیها جلطة کهربائیة علی أذنیه قد أثرت علی حاسته السمعیة!

والدی قررالهجرة ولکن أولاً علي أن أهاجر ، علي أن أهاجر إلى  باكستان ، طرحت الموضوع على والدي وهما لم يرضيا ولا يريدان الفراق إلا أني مصر...  أخيرا وافقا !

عمي هاجر إلى باكستان  قبل سنوات وهو تاجر نشيط والآن يتاجر بين باكستان و أفغانستان وبما أنه في الستينات من عمره لذا يتردد بين هذين البلدين بسهولة .

اتفقنا على أن عمي عند ما يأتي هذه المرة سأذهب معه إلى باكستان .

وصل عمي ومكث عندنا قرابة شهرین وجهز بضائعه التجارية التي هي جلد الغنم والماعز والبقر ، ومن هذه اللحظة بدأت بالاستعداد.

والدی کان مصراً کی أحفظ کتاب الله ، فأقام حفلة كبيرة ودعي أستاذي في الحفظ وهو الشيخ محمد مراد ، كان رجلا كفيفا إلا أنه رجل مبارك  وذو قلب بصير ، لقد استفدت منه كثيرا ، والدي أعطى له جوائز وهدايا قيمة وجوائز نقدية ،  كما أعطى له ثوبا وعمامة و مشلحا ،  كما دعي في هذه الحفلة المشايخ وأصدقائي وعمي أيضا حضر .

تقترب أيام الهجرة يوما فيوما ، عمي كأغلب الأفغان رجل أمي لا يقرأ ولا يكتب، إلا أنه رجل ذكي وذو شخصية نافذة يتمتع بفصاحة اللسان وبلاغة البيان، أفني عمره في السفر والترحال ، يحتفظ معنوياته في أحلك الظروف وأحرج الساعات ويسيطر على الموقف دائما.

قال لنا :

الهجرة إلى باكستان لاسيما لأطفال أمثالك أمر صعب جدا فلا بد أن لا تتكلم عند أحد وأن لا يسمع أحد حتى أقرب أصدقائك إليك شيئا عن هذا الموضوع كي لا يراقبنا أحد ( يقول هذا ويضع يده على فمه يعني لا تتكلم عند أحد  )! 

لأننا إلى جسر ( متك )  الذي يقع بين  (جبل السراج ) و ( كابل ) نمر على المناطق التي يسيطر عليها الروس والشيوعيون ، والذي يلف إلى اليمين عند الجسر معناه أنه يذهب إلى باكستان ولأجل هذا هناك تفتيش شديد، وفي الطريق إلى جسر (متك ) لو سألوك أين تذهب ؟ قل لهم بأنك مريض وتذهب إلى( كابل )  للعلاج !وهذا ليس كذبا إن شاء الله لأنك تذهب إلى جهة كابل وحسب ما قال أبوك أنت مريض أيضا،  وبعد جسر ( متك ) تبدأ مناطق المجاهدين وعند ذلك أنت حر !

ألقى عمي خطبته هذه وخرج إلى السوق وأنا غرقت في التفكير ! ماذا أفعل يا ربي ؟ كيف نجتاز هذا الجسر...

والدي مع أنه رجل متوسط الحال اقتصاديا إلا أنه رجل كريم سخي ومضياف ، باب منزلنا  مفتوح للجميع ، والدي هوالثاني الذي يعرف القراءة والكتابة في القرية وقد تخرج من  دار العلوم العربية  بـكابل، وهو عالم دين .

فلهذا أكثر الناس في المنطقة يعرفونه ، يفزع إليه الناس في أمورهم الدينية ويستشيرونه في أمورهم الدنيوية ، ويستفتيه المجاهدون في مسائل الهجرة والجهاد والغنائم والعشر الذي كانوا يأخذونه من أراضي زراعية لمواصلة الجهاد ، ويأتيه طلاب العلم ويدرسون عنده التفسير والحديث  والنحو والبلاغة ، فلهذا بيتنا لا يخلو من ضيف كما أنه محطة المسافرين ، القادمين منهم والمغادرين .

في هذه الأيام ظهر في المجتمع رجل غريب، قضي عدة ليالي في بيت أحد أقاربنا ، إلى أن سمع والدي فذهب بنفسه واستضافه للعشاء إلى بيتنا، هذا الرجل كان أصم لا يسمع شيئا كما أنه كان عرافا ينظر إلى أكف الناس ويخبرونهم عن مستقبلهم كما يزعم !

فنظر إلى كفي فقال :

أوه ! هناك مؤامرة لاغتيالك أنت وهي على وشك التنفيذ حتى كفك يشير بأنها قد نفذت بالفعل ، وهذا معناه أنهم سيغتالونك في مستقبل قريب، انتبه لنفسك .

بما أني كنت أعرف هؤلاء الدجاجلة، وأستاذنا في المدرسة في مادة التفسير كان قد عرفهم لنا جيدا، فلم أهتم بكلامه ، إلا أن الأنباء ( أنباء اغتيالي )  تسربت إلى أمي . فاضطربت وقلقت وأصبحت لا تسمح لي حتى بالخروج من البيت ، إلا أني أقنعتها بأن هذا كذب وهؤلاء الدجالون لا يعلمون الغيب والغيب علم تفرد به الله .

يقترب يوم الهجرة ، ذهبت إلى قريتنا  (جار شهيد)  التي تقع في مديرية (  جار دره ) التابعة لمحافظة ( قندز ) زرت جدي لأمي ، الحاج عبد الجليل الذي في الثمانينات من عمره ، والذي فتح دار ضيافته للمجاهدين وباع جماله ومواشيه وقدمها في خدمة الجهاد ، له مزرعة كبيرة بجنب بيته فيها أشجار الفواكه ، مثل التفاح والمشمش واللوز والبرقوق والكمثرى والجوافة والخوخ وغيرها ! هذه الحديقة هي مأوى فقراء القرية ، وبابها مفتوح للجميع ، حتى الأرامل والأيتام يأتون من قرى مجاورة و أماكن بعيدة إلى بيته ومزرعته كي يجدوا عنده يدا حانية ، هو رئيس القرية وهو الآمر والناهي فيها ، وهو يقوم بعقوبة المتخلفين عن صلاة الجماعة ، هو أول من خرج  من هذه القرية بعد بناءها قاصدا المكة المكرمة لأداء فريضة الحج ! وفي مكة كغيره من عامة الناس اشترى كفنه وغسله بماء زمزم وأخذه معه إلى أفغانستان ويحتفظ به حتى يكفن فيه بعد موته ، علاقات المصاهرة لا تتم بين أهل القرية إلا بعد استشارته ، كل سنة في صبيحة اليوم الثاني من العيد الأضحى يجمع الناس في المسجد ، أهل القرية كلهم يحضرون ، وكل واحد يأخذ معه شيئا من لحم أضحيته مع الحلويات والشاي ويحضر، والذي  ما ستطاع أن يذبح أضحية لفقره ، عليه أن يحضر وإن لم يحمل معه أي شيء من بيته ،  و كانوا يفرشون هناك  مائدة خاصة لنا الأطفال كي نمرح على هذه اللحوم بحرية .

وعدة صحون لحم تأتي من بيت جدي ، لأن أضاحيه التي يذبحها يصل إلى عشرات فهذه أضحيته هو وهذه الأضحية عن أمه وهذه عن أبيه وهذه أضحية زوجته الأولى وهذه أضحية الثانية وهذه أضحية الثالثة وهذه أضحية الرابعة وهذه الأضحية عن أخيه المتوفى و... و ... و ...

الناس يفطرون هنا وبعد الفطور يقوم إمام المسجد ويكلمهم ويعظهم ، و لو كان هناك أحد بينه وبين الآخر شيء من القطيعة والبعد والجفاء لأمر حدث بينهما ففي هذا اليوم طبعا حضر كلاهما ، عند ذلك يقوم هذا الاجتماع بدوره لحسم هذا النزاع والخلاف بينهما والناس يجبرونهما كي يقوما ويعانق أحدهم الآخر كأنه لم يحصل بينهما أي شيء . نعم ! عند ما يهم الناس بالخروج من المسجد نحن الأطفال كنا نعمل أيدي السلب والنهب على ما تبقى من حلويات على الموائد .

بعد الخروج من المسجد تبدأ زيارات الناس في بيوتهم ، والذي لا يزوره هذا الاجتماع في بيته معناه أنهم احتقروه ، فلابد أن يعلن مقاطعة صارمة معهم إلا بتقديم الاعتذار له عن طريق جدي .

وبما أن بيت جدي كان مركزا من مراكز المجاهدين فقد كانت تطير طائرات روسية لقصفه ويرسلون مدافع هاوان الملتهبة من مطار  قندز  إلى بيته دائما .

ذهبنا إلى مسجد القرية الذي بناه جدي وهناك نهر جميل يمر بجنب المسجد، أمواجه المتلاطمة تقبل خدود الشواطئ .

 آه ! كم كنت أحب هذا النهر ومائه الزلال  وشواطئه الخضراء ، وفي ساحة المسجد أشجار الدلب المرتفعة الباسقة  والمطلة على النهر، سبحنا فيه مع أصدقائي وأخوالي الصغار ، كنا نتسلق هذه الأشجار المرتفعة ومن هناك نرمي بأنفسنا داخل النهر ... 

ذهبت ووقفت على أطلال بيتنا المهدم وألقيت نظرات ونظرات على ساحته وجدرانه الخربة ، كانت هناك شجرة المشمش عند باب المنزل وفي فصل الربيع تتفتح أزهارها و تتعرش غصونها خارج الجدار، وعند ما تهب نسائم الربيع العليلة  وتلثم الصبا أفنانها مداعبة تأتي بحركات عجيبة ومتناسقة ، وتعطي الجو رونقا عجيبا من الجمال الأخاذ والاعتدال الساحر، والآن ليس لها أي أثر.

أكثر بيوتات القرية أصبحت مهجورة ، هذا بيت عمي ، دخلناه فوجدناه قد نبتت الأعلاف والأعشاب حتى داخل غرفه ، في أزقة القرية الضيقة المتهالكة لا نرى أحدا إلا بعد انتظار طويل ، صمت رهيب يلف المكان ، ودعت قريتنا ورجعت إلى بيتنا في المدينة .

جاء عمي يوما وقال :

بعد ثلاثة أيام نتحرك بإذن الله تعالى ، ولو كانت عندك أوراق أو شيء آخر خذها معك حتى يثبت أنك مريض وتذهب إلى كابل للعلاج ، ولو أنزلوك من السيارة – لا سمح الله – هذا معناه أننا قد فقدناك ، وبعد أن نجتاز جسر متك فلا خوف إن شاء الله .

يا رب كن في عوننا...  يا ربي !

إخواني نزلوا ولكن يطوفون حول السيارة إلى أن نتحرك ، امتلأت السيارة حتى الناس صعدوا فوقها وتعلقوا حولها ، في هذه الأثناء سمعنا دوي الرشاشات وهدير طائرات تحلق في السماء فوقنا ، جاء الخبر أن هناك اشتباكات دامية بين المجاهدين والقوات الروسية و الحكومية العميلة في إحدى القرى الواقعة في طريقنا إلا أن الطريق مفتوح .

فانطلقنا بعون الله ، مدينة بغلان ،  تبعد عن قندز   60كم   إلا أن الشوارع دمرتها الدبابات الروسية وحفرت فيها حياضا ، قضينا هذا اليوم كله في الطريق، وفي الطریق والدی حکی لی قصة الإمام قتیبة بن سعیدالبغلانی ، شیخ الإمام البخاری، أخیراً وقت صلاة العصر وصلنا مدينة بغلان القديمة ، نزلنا من السيارة مع وجوه مغبرة حتى أصبحنا لا نعرف ، كانت شاحنة بضائع عمي وشركائه قد سبقتنا إلى هذا المكان ، ذهبنا ورأيناهم .

عمي قال :

استأجرنا هذه الشاحنات إلى منطقة (جار دهي )  و ( جار دهي ) تابعة لـ (غوربند) وهي  إحدى مديريات ( إقليم بروان ) ومن هناك نستأجر شاحنات أخرى   إلى (  أنكور أده )   و ( أنكور أده ) هي حدود حرة بين  أفغانستان  و باكستان ، وتقع في منطقة (  وزيرستان ).

رجعنا وجلسنا تحت أشجار التوت التي في جهتي الشارع.

عمي قال:

هذا أيضا يذهب إلى باكستان معنا ،  وأشار إلى أخ كان واقفا هناك ... تعارفت معه فاسمه عبد البصير ومن منطقة ( يفتل )  بإقليم بد خشان ،  فكان معنا إلى مدينة كويتا بباكستان .

والدي قال :

أنا لا أرجع إلا بعد أن أودعكم وأنتم تتحركون.

بعد العصر دخلنا في غرفة في الطابق الثاني من مبنى مهدم كي نقضي فيها هذه الليلة ،  جلسنا متحلقين على الثرى ، فإذا برجل غريب يطوف حولنا ، عمي نظر إليه بنظرات الاستنكار كأنه يريد أن يقول له :

هل تريد منا شيئا!

وأما أنا فقد أخذني الضحك لنظرات عمي الغريبة إليه.

والرجل يقول وبجرأة عجيبة :

أردت أن أخدمكم هذه الليلة لأن معكم هذا الشيخ أيضا، ويشير إلى والدي .

ثم قبل أن يسمع الإجابة من عمي بدأ يطوف حول زوايا الغرفة وهو لابس جبته الصفراء  التي تصنع من صوف الإبل والغنم في شمال أفغانستان ، ثم غادر المكان .

فبعد أن ذهب ، عمي قال :

قبل عشرين سنة لما كنا في ( خان آباد ) في فندق سيدال ، كانت فيه عدة مجموعات من أناس متهورين ومقامرين ومنحرفين أخلاقيا، وهذا الرجل أيضا كان من ضمنهم ، وصاحب الفندق واسمه  سيدال ، كان له ولد وسيم مثل ابني شمس الله ، ففي صبيحة ليلة من الليالي سمعنا أن ابن سيدال ، قتل وقد وجدوا جثته خارج بيتهم في الشوارع ، فهذا الرجل اعتبر من ضمن المتورطين في قتله ، وأما نحن فلما كنا مسافرين فذهبنا إلى أشغالنا فلم نسمع بعد ذلك عن تلك القضية شيئا ، وما كنت أظن أن هذا الرجل إلى الآن حي يرزق و قد نجا من بطش سيدال ، الذي كان لسانه كسيف صارم ،  والآن لما رأيته هنا دهشت !

قصة عمي هذه خوفتني كثيراً ،  جاء الليل، الغرفة أصبحت مظلمة ، وطبعاً لا يوجد كهرباء ولا مصباح وليس معنا مصباح يدوي أيضا فلهذا لا نرى شيئا ، الشتاء على الأبواب والجو أصبح باردا لاسيما في الليل ، الغرفة لا يوجد فيها فراش ، أرض مبللة وباردة ، كما أن هذه الغرفة من ناحيتها الغربية تطل على صحراء واسعة ولها شبابيك كبيرة ومنكسرة إليها وتهب منها رياح باردة ناسفة.

عمي بما أنه رجل بدوي يلبس عمامة كبيرة وعباءة  طويلة أمثال البدو في أفغانستان ، فأعطى لي هذه العباءة كي أتغط بها، وأما هو فلم أعرف ماذا فعل في هذه الليلة لأن الغرفة كانت مظلمة ، قررنا بأننا نتحرک في الصباح الباکر، نمت بجانب والدي وكان لي منديل من قماش في جيبي أنشف به وجهي بعد الوضوء ، وضعت هذا المنديل على فمي وأنفي ونمت ، في الصباح لما قمت أول شيء تذكرته هو أمي وإخواني وبيتنا وأصدقائي .

توضئنا وصلينا الفجر والشمس أضاءت حولنا، فإذا بطائرات روسية تقصف منطقة قريبة من المنطقة التي نحن فيها نسمع دوي القصف ونشاهد القنابل التي تلقيها الطائرات ، جاء الخبر أن القائد بشير البغلاني قد أغلق الطريق أمام طابور من دبابات العدو وهذه الطائرات تقصف مواقع هذا القائد  ، الآن الطريق أمامنا مغلق ، انتظرنا إلى قبيل العصر لم يفتح ، عمي قال لوالدي :

-فضيلة الشيخ أنتم الآن ترجعون ونحن ننتظر إلى أن يفتح الطريق أو نجد طريقا آخر .

 وبهذا خرجنا كي نودع والدي ، عمي قال لوالدي عند السيارة أدع الله لنا ، فدعا دعاء طويلا وقبلني وهو يبكي ثم جلس في السيارة وتحرك صوب قندز ، كنت أنظر وراء السيارة فإذا هي غابت وسط غبار الطريق ...

عمي لم يسمح لي كي أنظر ورائهم كثيرا وقال:

تعال هنا يا عبد الخالق  تنظر إيش ؟ لم يحصل أي شيء .

طوال هذا اليوم كنا نسمع دوي الرشاشات وصوت انفجار القنابل ، جاء الليل كان هناك مطعم (أی محطة النزول)بجنب الشارع إلى يمين الذاهب إلى كابل ، لرجل اسمه (  لقي ، بفتح اللام و القاف و سكون اليا ) قبيل المغرب دخلنا فيه ، هناك بساط وسخ مفروش على الأرض  و العم لقي  يوقد النار تحت غلاية ماء وضعها في وسط المطعم وبدء ينفخ فيها ، وقد امتلأت الغرفة بالدخان ، وهناك وضع قدرا آخر ويوقد النار تحته لأنه يريد كي يطبخ المرق هذه الليلة ، والظلمة تغطي الغرفة حتى الإنسان لا يرى شيئا ، جلسنا هنا وبعد قليل عمي خرج وأنا جالس ، رجع عمي بعد المغرب فقال وهو يدخل المطعم :

آآآ سيد  لقي ، إيش عندك هذه الليلة ؟

لقی قال:  تفضلوا ، المرق جاهز .

جاء عمي وجلس عندي ... صراحة عمي كان رجلا طريفا لطيفا ومزاحا يضحك الجميع بنكته ، فكل من يقترب من المطعم ، لقي ، كان يصرخ تفضلوا المرق جاهز .

وعمي يقول :

نعم تفضلوا ، لو قل المرق فهناك  ماء دافئ موجود بجنبه في الغلاية ، يستغل هذا الظلام و يصبه في القدر ، تفضلوا !

وبهذا يضحك الجميع .

نمنا في هذا المكان وهذه أول ليلة أقضيها بعيدا عن أحضان الوالدين...

في الصباح قمت قبل عمي وخرجت ، الشارع والأزقة مظلمة ، لم يؤذن بعد ، صمت رهيب يلف الكون ، نجوم ضئيلة تتلمح في آفاق السماء من وراء الغيوم ، هناك صوت جدول الماء يأتي من بعيد ، تابعت هذا الصوت فوجدت جدولا صغيرا يجري فيه ماء سريع نقي زلال ،  والقمر أيضا خرج من بين الغيوم ونوره الآن يلمع على الماء وصورته تنعكس فيه ، أمامي صحراء واسعة وفي وسط الصحراء تتراءى كومة مكثفة من أشجار ملتفة ،  أسمع نباح الكلاب من الأكواخ التي تحت تلك الأشجار بعد حين وحين ‍...

توضأت في هذا الماء فوجدته باردا صاقعا .

زوج خالتي كان فلاحا نشيطا ،  كان فلاحا في أرضه ، وفي فصل الربيع ينتقل مع أولاده وجماله ومواشيه إلى بطون الجبال والأودية ، وهناك يبني بيتا مؤقتا من حصير قشي و أحشاش جبلية ، ويقضي عدة شهور في هذه الوهاد والهضاب ، أمام بيتهم القشي فوق  شعفة من تلك الشعاف كومة من الأثافي لطهي طعامهم ، ترتع مواشيهم في المراعي الخضراء حولهم ، في الليالي المقمرة، الرجال يسمرون ساعات طوال من الليل وهم متحلقون على بساط من صوف الإبل والغنم فوق قمة جبل من هذه الجبال ، ثم مع اشتداد حرارة الصيف وبعد جني الفستق البري الجبلي يعود إلى بيته ، كانت له قلعة كبيرة وسط أراضيه الزراعية لها باب خشبي مزخرف كبير وأبراج مرتفعة ولم يكن حولها بيت آخر ، وفي فصل الصيف كنا نزور خالتي مع أمي في قلعتها هذه ، ففي الليل كنا ننام فوق سطوح البيت وحولنا أراضي زراعية واسعة وأشجار مرتفعة ، مع حلول المساء نسمع زقزقة العصافير التي تعود إلى أعشاشها وفي الليل نسمع نقيق الضفادع من جداول الماء حولنا ، وعند ما نسمع عواء ابن آوى من غابات بعيدة نلجأ إلى حضن أمي كأطفال وخالتي  تطمئننا بأن ابن آوى لا تأكل على أحد وأنها عند ما ترانا تهرب .

كانت لديها كلاب للحراسة ففي أولى أيام زيارتنا كانت تنبح إلينا إلا أنها سرعان ما تألفنا لكثرة دخولنا وخروجنا مع أبناء صاحب هذا البيت .

قمت من الوضوء وتذكرت كل هذا ، وأنا واقف في مكاني في هذه الظلماء الطاخية ، أمسح عن خدي قطرات ماء الوضوء الممزوجة بدموعي...

قلت يا ربي هل أعود إليهم مرة أخرى ؟

وهل تتكرر تلك الأيام والذكريات مرة أخرى ؟

وهل تقع نظراتي على تلك الجدران والبيوتات مرة أخرى؟

لقد تركت تلك الحياة المريحة وأولئك الأعزاء والأحباب وقذفت بنفسي داخل هذه الأهوال و الشدائد والمحن...

ليت لي جناحين الآن كي أطير إليهم ‍‍‍‍، حتى لقد تفكرت مرة كي أنفض يدي من هذا السفر وأرجع من هنا إلى قندز من جديد .

لا بأس أن تقتلني الروس و الشيوعيون ‍!

کنت أسمع کثیرا عن الهجرة والجهاد و معاناة المسلمين عن والدی.

فهنا تذكرت بأني مهاجر، والمهاجر لابد وأن يواجه مثل هذه المصاعب والآلام...

الهجرة ليس معناها هو التخلص من قبضة الكفر والفتنة والاستهزاء والسجن والاضطهاد والفرار بالدين إلى أرض آمنة فحسب ، بل الهجرة مع هذه هي إهدار المصالح والتضحية بالراحة والنعم وتحمل لوعة الفراق عن الأحباب وتجرع الغصص والآلام صباح مساء. والله تعالى يقول :

ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مرا غما كثيرة وسعة ، ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله ، وكان الله غفورا رحيما .

وإن الهجرة مقدمة الجهاد وان تكاليف الجهاد تكاليف باهظة لا يمكن أن تتحملها أرواح كليلة وأنفس ضعيفة ، بل التي تتحملها أرواح قد نضجت وتمحصت داخل هذه الزعازع والأنواء والمحن ، لذا يقدم الرب سبحانه ، الهجرة على الجهاد في كتابه لما في الهجرة من مشاق وصعاب وتمحيص وتربية  ويقول :

... الذين هاجروا وأخرجوا من ديارهم وأوذوا في سبيلي وقاتلوا وقتلوا لأكفرن عنهم سيئاتهم ولأدخلنهم جنت تجري من تحتها الأنهار ، ثوابا من عند الله ، والله عنده حسن الثواب .

وان الذي يريد مقاومة  الجاهلية وخوض المعركة مع الطاغوت  في ميادين الجهاد  والإيثار والفداء والتضحية ، لابد له من ترك الأهل والديار والبلاد والأحباب و مغامرة الشدائد والمحن ، وتعريض النفس للمخاطر والمهالك ، لأن امتشاق السلاح والخروج على الجاهلية والخوض في ميادين النضال والكفاح لمقاومة المحتلين ومحاربة المفسدين و مقارعة الطواغيت الذين يملكون القوة والمال والجاه معناه إعلان الحرب  ضد العالم أجمع ... وإن كسب مثل هذه المعركة الشاملة لابد لها من إعداد واستعداد وتربية تسبقها ، وبهذا يجب أن نعيش حالة الاستنفار القصوى في كل ساعة و حالة الطوارئ في كل لحظة وان نكون مستعدين لاستقبال السجن والاضطهاد والتشريد والاغتيال في كل دقيقة ، وأنا بوصفي عضو في المجتمع الإسلامي مسئول عن كل ما أصيب به المسلمون من احتلال وحروب وويلات...

أين الأندلس ؟

أين المسجد الأقصى ؟

أين بخارى و سمرقند وترمذ؟

وإن عودتي من هنا إلى أرض الوطن معناها انهزامي في المعركة وانسحابي من الميدان قبل نهايتها...

ليست الحياة هذه الصحراء الهائلة الشاسعة نتيه فيها حينا من الدهر ثم نذبل ...

بل الحياة لها هدف أسمى وغاية منشودة يجب على تحقيقها والوصول إليها...  وبهذا اطمئن قلبي ورجعت .

بعد أداء صلاة الفجر رجعت إلى عمي ، مضى هذا اليوم والطريق مازال مغلقا ، عمي أعطاني  500 روبية أفغانية وقال:

هذه من زكوات أموالي خذها عندك وكلما ترى فقيرا أو متسولا أعط له شيئا من هذا المبلغ وإذا انتهيت أخبرني ، لعل الله تعالى يسهل لنا سفرنا ، فهناك ضرب المثل يقولون :

الصدقة ترد البلاء .

جلس عمي وقرر مع شركائه في جلسة طارئة بأن يتحركوا عبر طريق آخر مع أنه بعيد ، واتفقوا على هذا...

قافلتنا الآن تتكون عن ستة ، عمي وأنا والأخ عبد البصير والحاج مامي ، و ، بابه قل ، و حيدر قل ، جلست أنا مع عمي والسائق في الشاحنة التي فيها بضائع عمي والأخ عبد البصير جلس في الشاحنة الأخرى معهم وانطلقنا صوب ( بلخمري ) واخترنا طريقا إلى يسار الشارع المؤدي إلى كابل ، في الطريق رأيت لوحة مكتوب عليها ( قف نقطة المراقبة والتفتيش ) جف حلقي ، يارب ماذا أفعل ؟

بعد لحظات ظهرت أمامنا مجموعة من الجنود مع رشاشاتهم الروسية وأوقفوا سيارتنا ، صعد واحد منهم السيارة متسلقا وأدخل رأسه إلينا فلما رآني قال :

أوه ، أوه !

إلى أين تذهبون بهذا ...؟ 

إلى الأشرار ؟

أعطني بطاقتك الهوية .

قدمتها له وكنت قد زورت فيها بعض التزويرات أيضا أو بعبارة أدق عدلت فيها بعض التعديلات !

أخذ البطاقة وبدأ يقلبها يمينا وشمالا ، سبحان الله ، كأنه أمي لا يعرف شيئا .

في هذه الأثناء صرخ عمي وقال :

أعطني ، هذه بطاقة مهمة تمزقها ، هكذا قال وسحبها من يده !

الجندي أعطى البطاقة وقذف بنفسه إلى الأرض ، سبحان الله ، كأن أحدا دفعه ، حمدنا الله تعالى وواصلنا مسيرتنا.

وبعد سفر طويل وصلنا إلى مدينة بلخمري .

سائق الشاحنة عندنا رجل خشن وعصبي المزاج ، يتصايح مع عمي أحيانا حول أمور تافهة .

إلا أنه ينظر إلي بعين الإجلال والاحترام ، كان دائما يختار مكانا مناسبا للنزول لأجلي .

حتى مرة قال :

أنالا أقف في الأماكن التي فيها أناس متهورون ومنحرفون أخلاقيا. لأجلك أنت ، لأني أعرف الطريق جيدا ، وأنت تملک جمالا رائعا،  وقال مرة لواحد من أصدقائه في إحدى محطات النزول :

لم أسمع  من هذا إلى الآن حرفا واحدا ، ولد صامت وقليل الكلام  .

مرة قال:

هذا يمكن يذهب إلى السعودية .

وصلنا مدينة بلخمري ، توقفت الشاحنات بجنب إحدى عمارات مهدمة  ونحن جميعا صعدنا في مطعم ذي طابقين وسط المدينة وإلى يسار الشارع المؤدي إلى كابل ، صعدنا الدور الثاني ، وجدنا سررا موضوعة وفوقها فرش شبه نظيفة ، قضينا ليلتنا هنا ، وقت السحر قمت وخرجت بحثا عن حمام فوجدت حماما للأجرة اغتسلت وصليت الفجر ثم رجعت إلى مكاننا .

عمي قال :

لا تخرج كثيرا ، هنا دوريات التفتيش تجوب في الشوارع كثيرا .

كان بجنب هذا المطعم نهر جميل يجري فيه ماء  نقي زلال وفوقه مسجد صغير، وجدت بغيتي ، أتوضأ في هذا الماء وأصلي في هذا المسجد ثم أرجع إلى مكاننا

في هذا المطعم  وفي السرير المجاور لسريرنا كان  رجل ومعه ولده الصغير و يأتي بعض الناس عنده ويخرجون ، كأنهم من البدو ملابسهم تشبه ملابس سكان حول مدينة طالقان ، ينظر إلينا بنظرات الحب والحنان كأنه يريد التعارف معنا ، أخيرا جاء وجلس عندنا تحدثنا كثيرا فعرفنا أنه من رستاق ،  إحدى مديريات طالقان ، وأنه يتاجر بين طالقان و كابل .

قال لعمي :

نحن تحدثنا حولكم مع أصحابي ، أنا قلت لهم أن هذا الولد -  وأشار إلي -  يذهب إلى باكستان ( في هذه الأثناء  كان يخفض صوته ) وأما هؤلاء الآخرون فتجار مثلنا .

عمي قال :

كلامكم صحيح .

بعد ذلك كان يتردد إلينا كثيرا ، مرة قال لي :

أحد الشباب من قريتنا ذهب إلى باكستان ودرس ترجمة وتفسير القرآن الكريم ، وبعد تحرير المنطقة من الروس رجع والآن فتح حلقة لتفسير القرآن في القرية وأنا كنت أشارك ، ما شاء الله أصبح رجلا عالما فاضلا ، وأنت أيضا لابد أن تواصل دراستك في باكستان .

أحيانا ولده الصغير كان يبكي . فقال :

هذا أخذته معي في هذا السفر ، الآن يذكر أمه كثيرا ويبكي .

لا أدري ماذا أفعل .

بقينا يومين أو ثلاثة أيام في بلخمري ، والآن أريد كي أعود إلى بيتنا وأتحدث قليلا عن الملابسات التي حصلت بعد خروجي :

- كان لي صديق في الحي اسمه أحمد ، بيتهم كان قريبا من بيتنا ، مع أنه كان يكبرني سنا إلا أن رابطة الجوار والعلاقات الودية توثقت بيننا،  فكنا نلعب و نسبح في نهر الحي ، وكان يدربني على بعض الألعاب الشعبية أيضا ، ثم فجأة فقدناه ، وأخيرا سمعنا أن الحكومة قبضت عليه بتهمة التجسس لصالح المجاهدين ، ففي اليوم الذي خرجت من قندز  ، وكان الشيوعيون قد قتلوه ، فبعد سويعات من مغادرتي لقندز ، بعثوا بجثته إلى بيتهم ، وصل الخبر إلى بيتنا بأنهم قتلوا أحمد وبعثوا بجثته ، أمي كانت تعرف أنه صديقي ، ففي هذا اليوم كانت قد فقدتني مع صديقي ، فهذه الأمور جعلتها تبكي طوال هذا الیوم ، حتى ذهبت إلى بيتهم و شاركت أم أحمد دموعها و قاسمتها آلامها .

في البداية علاقاتي كانت متوترة مع أحمد ، فدائما كان يضربني ويهرب وأنا ألجأ إلى أمي واشتكي إليها بأن أحمد يضربني ، أخيرا قالت أمي مرة :

إذا رأيت أحمد عند الباب أخبرني ، ففي يوم من الأيام رأيت أحمد يأتي إلى بيتنا لأن طريقهم إلى السوق كان يمر أمام بيتنا ، جريت إلى أمي و أخبرتها بأن أحمد عند الباب ،  وهي كانت تكنس بهو المنزل بمكنسة يدوية ، فخرجت من المنزل وضربت أحمد عدة ضربات على كتفه بهذه المكنسة وهي تقول : أنت لماذا تضرب ابني ، ثم دخلت المنزل مسرعة ، وأحمد ولى هاربا ، بل ترك المرور أمام بيتنا لفترة طويلة .

ففي مناسبة من المناسبات النسوية اجتمعت أمي مع أم أحمد ، فاعتذرت أمه عند أمي وقالت :

أنا قلت لابني :

أنت ضربت عبد الخالق فضربتك أمه ، وأنا أسمح لك بأن تربينه هكذا دائما .

وأما ضربات أمي فقد نفعت أحمد كثيرا فبعد ذلك أصبح صديقي ، وبما أنه كان يتزعم فريق أبناء حينا ضد فريق أبناء الحي المجاور فاختارني نائبا له ، فأحيانا يجمعنا في الليل بصفيره الخاص بفمه بأنه أخذ قرارا للهجوم على المطار ، فنهجم على الحي المجاور ونرشق بيوتها بالأحجار ثم نهرب ونتوزع في بيوتنا ، وسباحتنا كانت دائما مع أحمد ، مرة سمعنا أن أحمد في النهر يسبح ،خلعنا ملابسنا وجرينا إلى النهر إلا أننا وجدنا أحمد في الطريق يأتي إلينا مسرعا منتقع اللون وهو يقول:

كنت أسبح فإذا برأس روسي يأتي به النهر وكنت واقفا تحت الشلال سقط الرأس على من فوق الشلال .

ثم لما أدرك أننا عرفنا آثار الخوف والهلع على ملامحه فتدارك في لحظة  وقال :

أنا خرجت لأن ماء النهر تلوث برأس هذا الروسي الكافر ، فاليوم لا نسبح ، بكرة نسبح .

- والدي عاد من بغلان ،  و وصل البيت ، بعد أيام اكتشف الشيوعيون بأني هربت ، فأخذوا والدي وحققوا معه وقالوا :

-لماذا هربت ابنك إلى باكستان وإلى الأشرار ؟

- والدي قال لهم :

أنتم تعرفون أن أبناء آخر الزمن لا يستمعون إلى كلام آبائهم ! ماذا نفعل نحن الآباء ؟

-إن لم تحضره خلال ثلاثة أيام سنأخذ ابنك الآخر كرهين ، حتى لاتهربوا جميعا .

وبالفعل أخذوا أخي الأصغر مني وحبسوه ، فلما رأوا أنه لا ينفعهم شيئا ثم أفرجوا عنه .

- بيت عمي كان قريبا من بيتنا فلما هاجر مع أسرته إلى باكستان ، سكن في بيته واحد من أقاربنا اسمه إمام الدين ، كان يسكن في القرية ، جاء وسكن هنا فرارا من القصف الوحشي الروسي ، كان تاجرا نشيطا،  في فصل الربيع  يخرج إلى جبال بدخشان و بامير ، ويشتري هناك أبقارا و أغناما وماعزا ثم يسوق هذه القطعان عبر الجبال مشيا على الأقدام إلى كابل، وهذه المواشي في طريقها  ترتع في هذه الجبال الخضراء وإلى كابل ، تصبح صالحة للبيع فيبيعها هناك ، ثم يرجع ويبقى أياما في بيته ثم يخرج ...

فلأجل هذا معظم أيام السنة كان غائبا عن بيته .

زوجته ، زهراء ، كانت تتردد إلى أمي كثيرا وتتحدثان هي وأمي طويلا ، وتغسل ملابس أطفالها عندنا لوجود البئر في بيتنا ، وكانت تساعد أمي في أشغالها المنزلية أيضا لاسيما بعد هجرتي أختي الكبيرة إلى باكستان قبلي بسنوات وكان زوجها قد سبقها .

بعد هجرتي هي جاءت إلى بيتنا كعادتها إلا أنها أصبحت لا تراني أدخل وأخرج غرفتي ، لم تسأل أمي عني بل ذهبت إلى بيت عمتي وقالت :

فيما يظهر لي أن ابن أخيك عبد الخالق ذهب مع عمه إلى باكستان ، لا أراه في البيت .

عمتي تقول

فوجئت بهذا الخبر إلا أني تجاهلت كلامها وقلت :

ابن أخي دائما جالس في زاوية غرفته والباب مؤصد عليه، كأنه من ذوات الخدور!لا يخرج إلا للضرورة .

لا...

كنت أحيانا أراه ، والآن منذ فترة ما رأيته .

عمتي تقول

انتظرت بفارغ الصبر متى تقوم إلى أن قامت وخرجت ، فقمت ولبست حجابي وجئت إلى بيتكم ، دخلت وذهبت عند أمك وقبل كل شيء سألتها عنك ، فإذا هي تجهش في البكاء ! عند ذلك عرفت كل شيء .[1]

قد حكت لي عمتي هذه القصة في باكستان بعد هجرتها .

في بلخمري ، رأينا الكهرباء ، وفي الليل صاحب المطعم كان يشغل جهاز التلفاز أمام المسافرين ، في إحدى الليالي أحد الشيوعيين الكبار كان يتحدث في التلفاز ويقول للمجاهدين :

هؤلاء الأشرار يحرقون بيوتهم بأيديهم ويريدون الحرب !

عمي قام وجلس قريبا من الجهاز ، فلما ألقي الشيوعي خطبته وغاب ، قام وجاء إلينا وهو يقول :

هاه !

صوته كنهيق الحمار، يقول للمجاهدين أنهم أشرار ويريدون الحرب .

تحركنا من بلخمري ، وبعد أن اجتزنا نفق ( سالنج ) الشهير وإلى جهتينا جبال هندوكش الشاهقة ، تكللها ثلوج بيضاء ناصعة ، دخلنا مدينة جبل السراج .

نزلنا ودخلنا مطعما لم يكن بأحسن من مطعم لقي في بغلان ، اسود السقف والجدران لكثرة الدخان ، حتى قلت لعمي مازحا :

هذا غرفة النوم أو مطبخ ؟

غضب عمي  لكلامي هذا وقال وهو ينظر إلي بنظرات الاستنكار والاشمئزاز :

أنت لا تعرف ظروف هؤلاء المسلمين ؟

ماذا يفعل المساكين غير هذا ؟ السبب أن أباك يكد ليل نهار ويحضر لك و أنت تأكل وتشرب و ترتع فوق المائدة و تنام ، ولم تذق بعد حلو الحياة ومرها!

 

خلف هذا المطعم نهر جميل وسريع يجري وعلى ضفتيه أرض حصباء ، كنا نتوضأ في هذا النهر ونصلي ثم نرجع ، الجو بارد جدا حتى تشققت  يداي وشفتاي .

كنت أخرج أحيانا إلى الشوارع فأرى جنودا مسلحين كثيرين .

قلت لعمي :

-ما أكثر هؤلاء هنا !

 قال: هنا  في جبل السراج، إضافة إلى جنود الروس، فرقة من فرق العسكرية الكبيرة موجودة لحراسة كابل من غارات المجاهدين ، انتبه لا تخرج كثيرا.

إلا أني كنت أخرج وأجلس تحت الأشجار التي إلى جهتي الشارع ، وأمامنا قصر الأمير حبيب الله يتراءى مع قبته الزرقاء .

هذا القصر الذي بني على أقوات الشعب الأفغاني المحروم ، الآن تمرح فيه القطط وابن آوى .

والأمير حبيب الله هو والد الأمير أمان الله ، وابنه هذا كان معاصرا لكمال أتاتورك ، ومتأثرا به ، في الجولة التي استغرقت ستة شهور قضاها في الخارج ،  التقى من خلالها بـ (لنين ) زعيم الانقلاب اليهودي في روسيا ، وكمال أتاتورك ، وزار الدول الأوروبية أيضا ، وكان قد اصطحب معه زوجته ، الملكة ثريا، وعند العودة  إلى  أفغانستان، في طريقهم زاروا مصر أيضا فدخلت زوجته الأزهر كاشفة متبرجة ، وثار عليها العلماء ، فلما رجعوا إلى البلاد كانت الملكة ثريا، قد أصبحت كواحدة من الأوروبيات ، ورمت بالحجاب بعيدا وقالت :

لقد  انتهى عصر الظلام !

وأما الملك فقد قام بتنفيذ  الإصلاحات  التي جاء بها كمال أتاتورك حسب زعمه .

فغير العطلة من يوم الجمعة إلى يوم الخميس ،  وأعلن السفور والتبرج وأجبر الناس على لبس الطاقية من النوعية التي  يلبسها كمال أتاتور ك ، كما شحن شاحنتين بالبنات لبعثهن للدراسة إلى روسيا ، إلا أن الشاحنتين لم تستطيعا التحرك خوفا من الجماهير الغاضبة .

فأفتى العلماء بكفر  هذا الملك من فوق المنابر ،  وثار عليه  الشعب، تحت قيادة شاب اسمه حبيب الله، والشهير ب ( بجه سقاو)  و ( بجه سقاو )  يعني ( ابن السقاء ) لأن والده كان يسقي الجرحى من المجاهدين الأفغان أيام جهادهم ضد القوات البريطانية ، وابن السقاء كان يجاهد في (بخارى )  فلما سمع فتوى العلماء بكفر الملك أمان الله ،  رجع إلى البلاد و شارك في الجهاد ضده ، وتقدم مع قواته صوب كابل ، وحاصرها ، فهرب الملك مع الملكة ثرياإلى الهند ، ومن هناك طاروا إلى إيطاليا ، ملجئهم الأخير ، فدخل ابن السقاء كابل ، وأعلن الحكومة الإسلامية ، وأحضر عنده سفير روسيا في كابل ،  وأمره مهددا بانسحاب القوات الروسية من شمال أفغانستان و من  بخارى  وسمر قند ،  وكانت روسيا قد احتلت شمال أفغانستان أيضا في تلك الفترة ، فهربت روسيا  من شمال أفغانستان ، إلا أن بريطانيا لم تترك فرصة  لهذا الشاب كي يحرر بخارى أيضا ، كما أن هذا الأمير طبع نقودا معدنية وكتب عليها ( الأمير حبيب الله ، خادم دين رسول الله ) فخافت بريطانيا، من هذه الإصلاحات فلجأت إلى خطتهم القديمة العريقة ، وأحضرت الخائن نادر، سفير الملك أمان الله في فرنسا ، و والد الملك ظاهر شاه ، أحضرته في بيشاور ، وجمعت حوله مجموعة من العلماء الرسميين كي يفتوا بأن ابن السقاء لص وقاطع الطريق وباغي لأنه خرج على الحكومة الشرعية ونحن نريد تطبيق الشريعة الإسلامية .

كما أنها أثارت نعرات قومية وقبلية أيضا في المناطق الجنوبية والشرقية ضد حكومة كابل ، فهجموا على كابل واحتلوها ، وابن السقاء انسحب إلى الشمال ولجأ إلى بروان .

دخل نادر كابل ، وأعلن الملكية من جديد.

ولكن كيف قبضوا على ابن السقاء ؟

لقد بدأ ابن السقاء بحشد قواته من جديد لاسترداد كابل ، و بريطانيا ، أخذها القلق  بأن ابن السقاء لو استرد كابل، سيشكل خطرا كبيرا على الهند ، ثم لجأت إلى خطتهم العريقة من جديد ، فأحضروا المصحف الشريف ، كتاب الله ، وكتب عليه نادر وإخوانه بأن ابن السقاء لو جاء واستسلم ، لا يصيبه أي أذى ويتحقق كل ما يريد ، وإن لم نحقق فنحن لسنا مؤمنين بهذا الكتاب ، و وقعوا تحته ، فبعثوا بهذا المصحف على يد أحد مشايخهم المرتزقة إلى ابن السقاء ...

وابن السقاء لما وصله المصحف مع هذا الشيخ المبارك ، قال أنا مؤمن بهذا الكتاب ، فجاء واستسلم مع رفاق دربه لـ نادر ، فأخذ هم نادر وقتل كلهم شنقا ورميا بالرصاص !

ونسخة المصحف التي وقعوا عليها إلى الآن موجودة عند شیخ المجاهدین ، المهندس حکمتیار حفظه الله .

ثم اغتيل  نادر على يد أحد الشباب باسم عبد الخالق داخل إحدى  المدارس ، فجاء إبنه ( المتوكل على الله ، محمد ظاهر شاه ) وحكم 41 سنة !

وأما أمان الله ، فمات في إيطاليا ، فطلبوا كي يدفن في أفغانستان ، وكما سمعت من كبار السن أن الشعب تحرج من دفن هذا الكافر في بلادهم ، وأيضا قالوا قد يكون هذا خطة وهو لم يمت بعد ، وکما سمعت أنهم أجروا تيار الكهرباء في جسمه وتأكدوا أنه مات ، سمحوا بدفنه في (جلال آباد ) في المنطقة الشرقية .

بقينا عدة أيام في جبل السراج ، كنا ننام في المطعم الذي نزلنا فيه .

لقد كان لوالدي غطيط أثناء النوم ، وكنت أسمع غطيطه في الليل وأنا في الغرفة المجاورة لغرفته في بيتنا ، ولقد كان هذا الغطيط قد أصبح شيئا مألوفا بالنسبة لنا .

في يوم من الأيام الخوالي مرض والدي واشتد مرضه حتى أوشك على الموت ، كنت طفلا صغيرا جمعني والدي مع أعضاء الأسرة و أوصانا بالحق والخير وذكر ما للناس عليه وألمح بأنه ربما يموت في هذا المرض .

استمر معه هذا المرض عدة شهور، فكنا عند ما نسمع غطيطه نطمئن بأنه نائم وعندما لا نسمعه نقلق ونأتي إليه فزعين للتأكد على حياته.

فلما وصلنا جبل السراج ، بقينا يومين أو ثلاثة أيام .

في ليلة من الليالي كنت نائما قريبا من عمي وهناك رجل آخر نائم له غطيط كغطيط والدي ، سمعت غطيطه وأنا نائم ، فظننت بأني في بيتنا وهذا والدي ، ثم تذكرت بأني خرجت إلى  باكستان وقد تركت والدي ، سيطر علي حزن عميق ، فجأة استيقظت وجلست ...

الجو بارد والغرفة مظلمة لاأرى شيئا .

يا ربي أهذا والدي...؟

لم يكن بإمكاني كي أتقرب منه ، ثم وضعت رأسي وتقلبت يمينا وشمالا ، وأخيرا قمت ونظرت إليه فإذا هو رجل مغطى ببطانيته ولا أرى وجهه ، خرجت والرجل مازال غطيطه يأخذ بمجامع قلبي!

رجعت بعد صلاة الفجر فوجدته جالسا ، لكن لم يكن الشيء الذي طالما رجوته وأنافي الطريق .

تحركنا من جبل السراج .

عمي قال :

جبل السراج، آخر محطة نزلنا فيها من المناطق التي يسيطر عليها الروس و الشيوعيون ، وبعد قليل يأتي جسر متك ،  و عنده نلف إلى اليمين وندخل مناطق المجاهدين ...

قلبي يضطرب ، يا ربي كن في عوننا.

هاهو الجسر أصبح مرئيا أمامنا .

واصلنا سيرنا وتقربنا فإذا بمئات من جنود الحكومة يسيرون جيئة وذهابا وهم يحملون رشاشاتهم الروسية ، ولا يسمحون حتى للطيور كي تطير فوق هذه المنطقة و هناك مدرعات روسية و فوقها جنود الروس مع أشكالهم القبيحة ، إلا أنهم لاينزلون .

ربنا ءاتنا من لدنك رحمة وهيئ لنا من أمرنا رشدا ... ربنا رب السماوات والأرض لن ندعو من دونه إلها لقد قلنا إذا شططا ، هؤلاء قومنا اتخذوا من دونه ءالهة لولا يأتون عليهم بسلطن بين ، فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا ؟

أقرأ كل الآيات القرآنية التي تأتي في ذهني ، ونحن نخترق طريقنا وسط جموع حاشدة من جنود مسلحين و أخطف بنظرات إلى الروس الجالسين فوق المدرعات أيضا و هم منشغلون بأكل شيئ يخرجونه من داخل العلب .

وصلنا عند طريق فرعي ينفصل عن الشارع الرئيسي ويتفرع منه إلى الجهة اليمنى ويشق طريقه وسط غابات ملتفة مكثفة .

نعم !

هذا هو نقطة الخلاص من سلاسل الشيوعية والهروب من جحيمها .

لففنا في هذا الطريق فإذا بمجموعة من هؤلاء الجنود تصرخ وتوقفنا بكل عنف وشدة .

عمي قال :

أنت لا تتكلم .‍

في هذه الأثناء صعد واحد منهم و شاربه يغطي فمه، على السيارة معلقا نفسه وأدخل رأسه إلينا وقال :

هاه ... أين تذهبون ؟!

عمي قال : إلى جار دهي .

الجندي قال : ومن جار دهي إلى أين ؟!

عمي كان قد جهز عنده مبلغا كبيرا من المال حتى لو كان من الممكن يشتريني منهم ، فوضع مبلغا من المال في يد هذا الجندي .

الجندي قال : هذا قليل .

خذ هذا أيضا .

أخذ المال وقذف بنفسه على الأرض ، تحركنا بعد أن ابتعدنا عشر خطوات ظهر أمامنا واحد آخر منهم ورفع مسدسه وأوقفنا .

صعد على السيارة وقال أعطوا حقي ، عمي دفع له مبلغا أيضا إلا أنه نهب مجموعة من النقود من يد عمي ثم رمي بنفسه إلى الأرض .

واصلنا مسيرتنا وابتعدنا عنهم وتركناهم وراءنا كثيرا ...

 سبحان الله .

كما قال الحاضرون كان مستشاروهم الروسيون وضباطهم الكبار في هذا الوقت ذهبوا لتناول وجبة الغداء وتركوا هؤلاء الجنود نيابة عنهم ، وهؤلاء الجنود ، الذي يدفع لهم يتركونه والذي لا يدفع ينزلونه ويسجنونه ويقولون هذا من الأشرار كان يريد أن يهرب إلى باكستان فقبضنا عليه .

حمدنا الله تعالى وواصلنا طريقنا وبعد أقل من 100متر رأينا شبابا مجاهدين يسيرون هنا وهناك على شكل مجموعات وعلى أكتافهم الصواريخ المضادة للدبابات والرشاشات التي غنموها من الروس ، رأيتهم واطمئن قلبي .

بعد حوالي الساعة أوقفنا اثنان من المجاهدين وقالا للسائق نحن نذهب إلى مكان قريب في طريقك ، هل يمكن أن تأخذنا معك ؟

السائق قال:  نعم ، تفضلوا .

فجلس واحد منهم معنا أمام السيارة وصديقه صعد فوق السيارة وتحركنا .

الذي جلس معنا كان شابا في الثلاثينات من عمره ، تعارفنا معه فكان من جبل السراج ، ويتكلم بلغة فصحى كأنه متخصص في الآداب وكما عنده علم غزير في قضايا العالم الإسلامي أيضا.

 نعم . هكذا تربي مدرسة الجهاد .

بعد قليل نزلوا ودفعوا أجرة السيارة إلا أن السائق رفض .

وأخيرا وصلنا إلى (چار دهي ) كان الوقت بين العصر والمغرب ، نزلنا وهنا نودع هذه الشاحنات لأن عقدهم مع عمي ينتهي هنا...

والآن لابد أن يبحث عمي عن شاحنات أخرى إلى ( أنكور أده ) ، نزلنا وتجولنا ، سوق مزدحم ، هناك محلات إلى جهتي الشارع المطين ، ومطاعم مفتوحة ، وهذه الأسواق والمطاعم تمثل الوحدة الاقتصادية لسكان هذه الطرق .

أرخى الليل ستاره وأظلمت السماء والأرض ، هناك بين أشجار التوت المكثفة بيت مهجور تهدم جراء القصف الوحشي الروسي وصاحبه إما قتل أو هاجر مع أسرته إلى باكستان ، والآن المسافرون في هذا الطريق ينزلون فيه ويقضون ليلتهم ثم في الصباح يغادرونه ويذهبون .

نحن أيضا دخلناه بدورنا ، دخلنا غرفة أصبح شباكها بوابة الدخول فيها ، قبل الأيام نزل المطر وتربة الغرفة مبللة وباردة كما أنها مظلمة ، فرشنا ما عندنا من ملابس وشر اشف إضافية وجلسنا ثم أدينا الصلاة ، أردنا أن ننام ولكن لا يأتي النوم لشدة البرد ، الحاج مامي مسكين في الستينات من عمره ، قضي هذه الليلة جالسا لشدة البرد !

قمت في الصباح وتجولت هنا وهناك ، الآن أشعر بالحرية ، حددت مكانا مع عمي بأني أمر عليه دوما في هذا المكان وتركته ، هو خرج إلى طريقه بحثا عن شاحنة وأنا اخترت طريقي ، أجلس في هذا المقهى وأشرب كأسا من الشاي ثم أخرج وأذهب إلى مقهى آخر ، الآن أنا بين إخواني المجاهدين ، وعندما يأتي وقت الصلاة أنا أصلي بالحضور ،  فأغلبهم مسافرون مثلنا .

فی أفغانستان لایسمحون لمن لم تنبت له لحية کی یؤم الناس ، إلا أن هؤلاء کانوا یقدموننی کی أصلی بهم .

في الليل رجعت إلى عمي ، نمنا في أحد المطاعم هذه الليلة ، الغرفة مليئة بالمسافرين ، هناك مجموعة من الشباب جاءوا من (گل دره ) مديرية تابعة لـكابل ،  ويهاجرون إلى باكستان ومعهم رجل مسن في السبعينات من عمره جاء معهم  إلى (جار دهي ) كي يودعهم ، نمنا وما استطعنا كي نمد أرجلنا لضيق المكان .

بقينا عدة أيام هنا، في اليوم الثاني كنت جالسا في أحد المطاعم  قبل المغرب فلما حان وقت الصلاة أنا صليت بالحضور ثم خرجت وكنت واقفا بين سوق مزدحم ، جاء عندي رجل منور ، تظهر آثار العلم والثقافة على ملامحه ، جاءني وسلم وصافحني بكل حرارة وكأنه يعرفني منذ سنوات ، وبدأ يتحدث معي في كيفية الذهاب إلى باكستان ويخاطبني بـ ( يا إمامنا ) فهو في صلاة المغرب كان وراءي ! فعرفت أن اسمه ( ح ) واسمه الحركي الجهادي ( م ) واشتهر بـ ( القائد م صاحب ) وهو الآن مدير ثقافی من قبل الحزب الإسلامی ،  في مديرية كوهستان ،  التابعة لمحافظة ( کابیسا) والتي يسيطر عليها المجاهدون الآن ، جاء مع 25 من طلاب مدرسةالجهاد الثانویة، الذين كملوا المرحلة الثانوية ويذهب بهم إلى  بيشاور ، كي يواصلوا دراستهم الجامعية .

بعد لحظات تجمع الشباب وتعارفت معهم ، عبد الواسع ، مصطفي ، نورآغا ، گل آغا  ، المعلم شيرآغا و... و... و... وجدت ضالتي المنشودة ..... أنستني وجوههم النيرة أصدقائي في قندز ،  نتجول هنا وهناك ...وأحيانا أمر على عمي أيضا لتطمينه ...

في اليوم الثالث قبيل المغرب ذهبت إلى أحد المساجد ، بعد صلاة المغرب رأيت أن سكان الحي جاءوا بعدة صحون من الطعام و وضعوها في زاوية المسجد ، و أصروا علينا كي نجلس و نأكل لأننا مهاجرون ، و هذا الغذاء يسمونه ( شوله غوربندي ) و هو نوع من الأغذية الشعبية لدى سكان هذه المنطقة ، بعد تناول الطعام ، هناك واحد قرأ عدة آيات من كتاب الله و الحضور كلهم دعووا الله تعالى كي ينصر المجاهدين و يهزم الروس و يرسئ الأمن و السلام في بلاد المسلمين .

أخيرا استأجر عمي شاحنتين روسيتين من نوعية ( كوماز )  التي غنمها المجاهدون من الروس .

كان من حسن حظي أن اتفق القائد ح م. مع سائق شاحنتا كي يأخذهم  مع هؤلاء الشباب إلى ( أنكور أده ) .

عمي قسم بضائعه في شاحنتين لصعوبة الطرق والجبال الشاهقة أمامنا ، فقال أنت تجلس في واحدة من هاتين الشاحنتين كأنك مالك هذه البضائع وتتحركون باسم الله وأنا أتحرك ورائكم مع شاحنة أخرى ، اتفقنا على هذا فجلست أنا والقائد ح م. ومالك السيارة مع السائق أمام السيارة وأما الشباب الآخرون فصعدوا فوق الشاحنة وجلسوا على البضائع و تحركنا .

كان الوقت بين الظهر والعصر ، واصلنا مسيرتنا وأنا مطمئن بأن عمي سيتحرك ورائي ويصل إلينا ولا أدري بأني أفقده من هذه اللحظة ولا أراه إلا في باكستان .

كان الليل قد أسدل ستاره الدامس وصلنا في منطقة ( سياه خاك ) واصلنا سيرنا وطول هذا الليل كنا في الطريق ، القائد ح م. كان رجلا لطيفا يمزح ويضحك الجميع ، كما كان ذا ثقافة واسعة حول قضايا العالم الإسلامي .

كانت أمي قد أعطتني كمية من اللوز، كنا نأكل هذا ونمشي وننزل لأداء الصلاة وأنا إمامهم  وكثيرا ما ننزل ونقطع مسافات شاسعة مشيا على الأقدام لأن السائق لخبرته بالطرق يقول أمامنا طريق خطير وخطر انزلاق الشاحنة موجودة ، أنتم تنزلون ونحن ننتظركم في منطقة فلانية ، وكثيرا ما ترتطم الشاحنة في الوحل وتبقى غريقة فيها ونحن ننزل ونواصل سيرنا مشيا إلى أن ينقذوها ويصلحوها ثم يدركوننا .

وكلما ننزل أنا أراقب الطريق ورائي ظنا مني بأن عمي سيظهر إلا أني لا أرى له أثرا ، وبهذا يزداد قلقي واضطرابي !

في اليوم الثاني قبيل صلاة الظهر وصلنا في منطقة ( آب نقره ) نزلنا والثلج يغطي الأرض والجبال والسماء ، هذه المناطق تابعة لإقليم باميان ،  فلهذا أغلب سكانها من الشيعة ، نزلنا والجوع والبرد يعصراننا .

هناك تتراءى غرفة طينية ، يتصاعد دخان مكثف من فوقها ، قالوا هذا مطعم ، تفضلوا .

دخلنا فإذا هي مليئة بالناس وأغلبهم مسافرون مثلنا وصاحب المطعم رجل شيعي ، وفي إحدى زوايا مطعم كومة مرتفعة من أعشاب برية وأحشاش جبلية ، احتطبها في الصيف من الجبال والآن يوقد بها النار داخل مطعمه ، وهناك غلاية ماء للشاي وهناك قدر آخر يغلي ، والغرفة مليئة بالدخان ، هناك ثقبوا ثقبا في سقف الغرفة كي يخرج منه شيء من  الدخان إلا أن الرياح العاصفة تدفع الدخان إلى الغرفة من جديد .

كنا نسمع أن هؤلاء يصطادون الطيور والوحوش الجبلية المفترسة المحرمة ويبيعونها على المسافرين أمثالنا في هذه المطاعم ، تذكرت هذا ، فجأة تقززت نفسيتي ، تركت الشباب وخرجت لأداء صلاة الظهر . سألتهم :

أين نتوضأ ؟

قالوا هناك نهر الماء .

ذهبت إلى النهر فوجدته قد تجمد لشدة البرد ، وفي إحدى زواياه ثقبوا ثقبا يأخذون منه الماء ، فتوضأت فيه ، ثم بحثت عن مسجد قالوا لا يوجد هنا مسجد و أشاروا إلى بيت له جدران ضخمة وفوقه راية وعنده حارس واقف مع رشاشه ، ذهبت فإذا هو حسينية هؤلاء الشيعة ومكتوب عليها شعارات للخميني ، أذكر منها هذه الجملة :

(امروز ، روزی است که اگر باهم ، هم آهنگ باشیم ، پیروز می شویم ) معناه : اليوم ، يوم ، لو اتحدنا ننتصر .

لم أصل فيه ، ذهبت إلى مكان بعيد ، وجدت إلى جانب الطريق صفة مفروشة بالحصير ، هنا أديت الصلاة ورجعت .

جلست قليلا ثم خرجت وأنظر إلى الوراء متى يصل عمي ولكن لا أثر له .

دخلت وأخذتني غفوة إلا أني استيقظت لامتلاء الغرفة بالدخان من جديد!

نظرت حولي ...الإخوة بعضهم نائمون وبعضهم صاحون ، والقائد ح م . خرج لأداء الصلاة .

فكري مشتت ، مرة أتفكر في هذه البضائع ، قد يسرقونها هؤلاء اللصوص ، ومرة أتفكر في عمي .

أين هو ؟

هل وقع في كمين وقبض عليه ؟

هذه الليلة قضيناها هنا .

في الصباح جلسنا مع القائد ح م. وتناولنا موضوع التحرك من هنا ، وأي طريق نختاره ؟ فأمامنا جبل مرتفع اسمه ( جبل خار وزار ) أي جبل الأشواك والعويل ، ولابد أن نقطعها مشيا على الأقدام ، وكم من شباب سقطوا داخل الوادي المظلم الذي بجنبه والذي لا يرى قعره ، فلم يجدوا لهم أثرا .

كنا نتحدث حول هذه الأمور ، فجأة وبغير مناسبة جاء عندنا اثنان من سكان هذه المنطقة ، فأشكالهما التترية واضحة ، وبدءا يجاملان ويتملقان ويدلاننا إلى طريق آخر بين الجبال والوديان ويقولون هذا أقرب الطريق ، نحن لا نرى لكم إلا هذا الطريق ، المهاجرون دائما يسلكون هذا الطريق .

فبعد أن قاما وخرجا ، قال القائد ح م

هؤلاء لصوص ، يرسلوننا في هذا الطريق وقد نصبوا كمينا لنا هناك أمامنا .

ولعل أبهج وأنعش ما كان في هذه المنطقة بالنسبة لي ، كان هذا الصباح الباكر حين تجمعنا مع القائد ح م. في هذا المطعم لمنا قشة برنامجنا في الطريق والانطلاق من هنا ومغادرة هذا المكان

وأخيرا وحين بدأ ضوء النهار يخترق ضباب هذا الوادي من وراء الجبال الشاهقة انطلقنا .

أحيانا نركب وأحيانا نمشي على الأقدام ، كان الوقت بعد الظهر ، فجأة ظهرت أمامنا مجموعة مسلحة وأوقفتنا و قالوا :

-لمن هذه البضائع ؟

قلت : لي أنا .

قالوا:

أنتم حملتم أسلحة تحت هذه البضائع ، أنزلوها حتى نفتش تحتها .

قلنا : لا يوجد تحتها شيء .

قالوا : لا ، أنزلوها بسرعة وإلا...

مهما حاولنا كي نقنعهم  أنه لا يوجد تحتها شيء ، لم يقبلوا.

أخيرا رمينا كل هذه البضائع من فوق الشاحنة على الثلوج ، فلما انتهينا قالوا ارفعوها على السيارة من جديد ، وكأنهم كانوا يريدون أن ننزلها مرة ثم نرفعها .

الإخوة كلهم يعملون ، تعطلت يداي من العمل لشدة البرد ، إلا أني أظهر نفسي مشغولة !

حملنا البضائع وتحركنا...

فلما تحركنا ، القايد ح م . قال :

(كانت عندي رسالة من أحد القادة الميدانيين إلى المهندس قلب الدين حكمتيار ، و لما أوقفنا هؤلاء ، خفت و قلت في نفسي ، ربما عندهم خبر عن الرسالة التي في جيبي ، فذهبت بعيدا و جلست كأني أقضي حاجتي و دفنت الرسالة تحت التراب ، و أثناء التحرك رحت إلى نفس المكان ثم جلست بنفس الطريقة ، و أخرجت الرسالة و أخذتها ) .

في منتصف الليل وصلنا منطقة قريبة من جبل (خارو زار ) ، هنا أردنا أن نستريح  قليلا ، استعدادا لتسلق الجبال غدا ، نزلنا فوجدنا مطعما مليئا بالمسافرين و لا يوجد مكان ، وكلهم ينتظرون فلق الصباح كي يصعدوا الجبل ، وهناك غرفة أخرى يظهر كأنها مستودع ، دخلنا فإذا هي مليئة بالمسافرين أيضا وفي الوسط رجل جالس ،  بيده سكين يقطع اللحوم ويجعلها شرائح ، لأنه غدا يطبخها للمسافرين ، أمامه مصباح يشتعل بالزيت والرياح التي تدخل من الشبابيك المنكسرة تلعب به .

وجدنا مكانا ضيقا عند الباب فقضينا هذه الليلة الباردة النجلاء هنا واقفين على أقدامنا !

في الصباح قال السائق :

أنتم تتحركون باسم الله وذكر منطقة وقال نحن ننتظركم هناك .

الآن لا أستطيع أن أمشي لكثرة التعب ، لكن ماذا أفعل .

فليس هناك حل .

بدأنا بتسلق الجبل مع ألف مشقة ومشقة .

كان معنا ولد صغير ضمن الشباب القائد ح م.

خاله أراد الهجرة إلى باكستان ، فهذا الولد أصر بأنه سيذهب معه إلى باكستان ، مهما حاول خاله إقناعه بأن الطريق طويل وصعب العبور لم يقبل ، أخيرا أخذه معه .

الآن هذا الولد لا يستطيع أن يمشي ، المسكين يجلس بين حين وحين ، خاله يوبخه :

ألم أقل لك أن الطريق طويل وصعب وأنت لا تستطيع المشي ، وكنت لا تقبل ، الآن رأيت !

الطفل المسكين يسكت ، كأنه معترف بذنبه .

الصعود في مثل هذه الجبال في أفغانستان ، لاسيما في فصل الشتاء يمثل يوم الحشر أمام الإنسان ، لا يهتم خليل بخليله ، كل واحد يريد أن ينجي بنفسه .

رياح باردة ناسفة وشديدة تهب من فوق الجبال وتحمل معها كل من في طريقها إلى داخل الوادي ، وأحيانا تنهار و تنقلب أطنان من الثلوج من فوق الجبل وتنزل وتكتنس كل شيء في طريقها وتعبيها داخل هذا الوادي المظلم العميق ، وإذا انزلق أحد وسقط فصديقه يدعو له ويواصل سيره لأنه لو وقف معناه أنه أيضا فقد معه .

وكم سقطت في هذه الثلوج من أظافر وكم تجمدت من أصابع .

وهناك حقول مزروعة بالألغام والمتفجرات إلى جانبي الطريق ولو ضل أحد عن الطريق المألوف الذي لا يكاد يزيد عرضه عن قدم ، معناه أنه اقتحم هذه الحقول ، أو هوى إلى قعر الوادي ، وكم من شباب سقطوا داخل هذا الوادي وبهذا لف ملفهم للأبد ، وبعضهم جثمانه يتراءى من بعيد و ربما بعض المارين إلى فترة يسمعون صراخه ، ولكن من يستطيع إنقاذه

وأحيانا مجموعات من ذئاب مفترسة ووحوش ضواري تهجم على بني آدم وتتناوشهم في هذه الجبال والوديان .

باختصار الطريق مفروش بالمخاطر والشدائد‍‍‍‍ .

وصلنا قمة الجبل ، نظرت وراءي فهناك واحد يظهر كالنمل والآخر أكبر منها يأتي أحد وراء الآخر ،  بدأنا بالنزول  من الجبل.

وقت صلاة العصر وصلنا عند الشاحنات وتحركنا .

نزلنا لأداء صلاة المغرب فدخلنا مطعما فإذ اهو مليء بالشيعة بعضهم يصلون وفق مذهبهم . نحن أيضا بدأنا صلاتنا مع الجماعة في إحدى زواياه وأنا إمامهم .

صاحب المطعم قال :

لابأس ، وسعوا لهم كل واحد يصلي وفق مذهبه ، موسى على حاله وعيسى على حاله ، (معنى كلامه أن كل واحد له حرية كي يصلي وفق مذهبه )، وأكلنا شيئا عندهم أيضا ، ثم تحركنا.

وصلنا عند طريق فرعي على سفح جبل شاهق ، قالوا هذا الطريق يؤدي  إلى ( باميان) نظرت إلى هذا الطريق وكأني أنظر إلى جيوش جنكيز خان يقتحم باميان ، عبر هذا الطريق ويقتل كل من فيها.

اخترنا المسار الأيسر وتحركنا صوب (غز نه )، طوال الليل كنا في الطريق ، في الصباح بعد أن بدأت أشعات الشمس ترمقنا من قمم جبال شاهقة ، دخلنا  إحدى مديريات (غزنة ) .

القائد ح م. قال :

هذه مدينة محمود الغزنوي فاتح الهند .

إلى يميننا مقهى دخلناه كي نشرب الشاي ، هناك رجل في الخمسينات من عمره جالس عند موقده الطيني وحوله أباريق و أكواب وكأساة وفناجين وسخة ، أوقد النار تحت غلاية ماء وضعها أمامه ،  والماء يغلي ، إلا أننا لم نجد عنده دخانا، فقد كان رجلا ذكيا ، نصب فوهة من فوهات مدرعات روسية مدمرة من عند موقده الطيني إلى الخارج ، والدخان يخرج منها .

كنت قريبا منه ، طلبت منه الشاي مع السكر ، كان لا يعرف الفارسية إلا كليمات قليلة ، إلا أن لهجته كانت حلوة للغاية .

قدم لي الشاي والسكر مع كسرة خبز جاف مغبر و ملفوف بخيوط العناكب .

بعد أن انتهيت أسندت ظهري على الجدار و استرحت  قليلا ، تسمرت عيناي على الجدار أمامي وغرقت في التفكير .

اليوم ، الزبائن كانوا قليلين عند هذا العم، ففي الوقت الذي كنت أدمر طائرات حربیة روسية تحلق في السماء فوقنا في تلك اللحظة ، أدمرها في مخيلتي ، فجأة هذا العم قطع حبل تفكيري وقدم لي إبريقا مليئا بالشاي كسخاوة منه لي .

شكرته على هذا ، نظرت حولي رأيت الإخوة تنغلق عيونهم وقد جلست كمية تذكر من الغبار والتراب على حواجبهم وأهداب عيونهم ، وربما حالتي أيضا لم تكن بأحسن منهم ، فأردت أن أنام قليلا ، قلت لهذا العم :

هل عندك مخدة ؟

قال و بملأ الفم :

  نعم !

 قلت في نفسي ربما مقهاه مفتوح في الليل وهو ينام هنا و بهذا عنده فراش  للنوم أيضا .

في هذه اللحظة التي كنت أستعد لتسلم المخدة منه ، فإذا هو يقدم لي طوبا أحمر ( اللبنة ) إلا أنه غطاها بقماش شبه ناعم ، هذه هي مخدته !

وضعتها تحت رأسي وغرقت في النوم .

تحركنا من هنا وبعد سفر طويل دخلنا صحراء ( لوكر )  كانت الساعة تشير إلى الثانية ليلا ، الإخوة قالوا ننزل ونستريح قليلا .

السائق قال :

مراكز الروس و الحكومة قريبة من هذه المنطقة ، لماذا ننزل .

إلا أن الاخوة أصروا ، أخيرا قررنا النزول ، قلت مازحا للقائد ح م. :

أريد منكم كي لا تسلموني للروس و الشيوعيين .

قال القائد ح م. :

لو قبض علينا ربما إمامنا يقول أن هؤلاء أخذوني جبرا إلى باكستان وأنالا أذهب ، ضحك الجميع ونزلنا .

سبحان الله ، صحراء مديدة متسعة الأرجاء ، يمد الناظر نظره فلا يرى إلا ظلمات بعضها فوق بعض ، ليلة مظلمة وباردة ، لقد تجمدت المياه والجبال والصخور من شدة البرد ، حتى أصبحت كلها كقطعة من حجر .

الإخوة قالوا:

الذي عنده كبريت لا يشعله لأن الروس والشيوعيين قريبون هنا ولو اكتشفونا يمطروننا بوابل من نيران وربما تطير طائرات لقصفنا.

لم أصل بعد صلاة العشاء أردت أن نصلي صلاة الخوف إلا أن جهة العدو لم تكن محددة بالنسبة لنا ولأن كثيرا من الإخوة كانوا قد أدوا صلاتهم فاجتهدت وحددت جهة القبلة وفرشت على الصخور المتجمدة قطيفتي التي كنت أتغط بها في الطريق وسط هذه الصحراء  وبدأت بالصلاة ، إلا أني لا أستطيع أن أقبض يدي اليسرى باليمنى ، لقد تعطلت أصابعي من الحركة لشدة البرد .

ولكن مع هذا ما ألذ هذه الصلاة وأحلاها !

أريد أن أطيلها ، أديت الفريضة ثم صليت ركعتين نافلة ثم صليت ثلاث ركعات وترا وأريد أن أزيد ، وإلى الآن أذكر حلاوة تلك الصلاة .

نظرنا حولنا هناك غرف يظهر أنها كمحطات نزول توجد بكثرة في هذه الطرق ، اقتربنا منها وفتحنا الباب ، أردت أن أدخل فإذا أنا أضع رجلي على بطن واحد ، المسكين صرخ وقال من أنت .

عند ذلك عرفنا أن هذا البيت من تلك البيوت المهجورة التي يقضي فيها المسافرون ليلتهم ثم في الصباح يغادرونها ، والآن لا يوجد فيها مكان ، أغلقت الباب وخرجنا .

الآن نتخبط في هذه الظلماء الطاخية ، لا نعرف أين نضع أقدامنا في هذا التيه الكئيب !

نظرنا حولنا هناك شبح يتراءى من بعيد ، جرينا إليه فوجدناه أطلال قلعة مهدمة عاش فيها بنو إنسان في فترة من فترات التاريخ  ، إلا أن فيه غرفة مازال السقف قائما عليها مع أن الإنسان يستطيع أن يدخلها من جميع جهاتها ، دخلناها أرض مبللة وباردة ، فجأة تذكرت بأن أمي الحنون كانت قد أعطتني طراحة ومخدة ولحافا جديدا كي أستفيد منها في الطريق وكانت قد ربطتها حول شرشف نظيف وبشكل جميل .

قلت للأخ نورآغا : عندي هذه الأشياء موجودة .

قال :  إذن لماذا ننتظر .

جرينا وأحضرناها ، فرشنا الطراحة وسط هذه الغرفة ووضعنا أرجلنا عليها ثم وضعنا اللحاف على أرجلنا وأسندنا ظهورنا إلى الجدران ،  وبدأنا نتحدث وبعضنا أخذته غفوة وبعضنا لا ،  وأنا لم أنم .

قمنا وقت صلاة الفجر ، الأخ نورآغا يمزح ويقول من الذي نام ومن الذي لم ينم ؟

ثم يضيف : وأنا أعرف أن إمامنا لم ينم.

واصلنا سيرنا و بعد أن قطعنا مسافات شاسعة و مضنية ، دخلنا صحراء ( قندهار ) المديدة الجدباء .

قطعنا هذه الصحراء في بهيم الليل الداجي وفي صمته الساجي مشيا على الأقدام خوفا من غارات طائرات روسية ، والرياح الباردة العاصفة تهب على وجوهنا ، ونتخبط خبط عشواء ، فتارة نكبو من فوق صخرة وأخرى نعثر فنتردى في حفرة .

بدأنا المسير و انطلقنا صوب ( بكتيا ) عندما يرانا في الطريق سكان المنطقة ويعرفون أننا مهاجرون ، يلحون علينا كي ننزل كضيوف عندهم ونستريح ليلة أوليتين ، إلا أننا نشكرهم ونواصل سيرنا .

في الطريق وجدنا شاحنة روسية شبه فارغة ، فانقسم الشباب وبعضهم ركبوها ، نحن تقدمناهم وهم بقوا ورائنا لذا فقدناهم .

في طريقنا إلى بكتيا ، بدأ المطر يضرب الاخوة الجالسين فوق الشاحنة بعنف حتى إذا نزلنا وكانوا قد أصبحوا كالذي سبح مع ملابسه في نهر الماء  .

وصلنا بكتيا وقت الظهيرة ، دخلنا مقهى ،  هناك شاب أسمر اللون يعمل فيه ، الأخ نور آغا يريد كي يضحكنا فقد كان لطيفا ، قال له :

أريد شايا أسود ، ثم يضيف : إسمع أريد شايا أسودا داكنا مثل وجهك .

وهذا المسكين لا يقول له شيئا.

كنا جالسين هنا ، فإذا بالشباب الذين تركناهم ورائنا وصلوا وقد انقلبت شاحنتهم وانكسرت رجل المعلم شيرآغا ، دخل الشباب المقهى الذي كنا فيه وهم يحملون على أكتافهم المعلم شيرآغا المجروح  .

القائد ح م. يمزح ويقول :

فضيلة المعلم شيرآغا انفجرت إحدى كفراته هههههه .

تحركنا والإخوة يحملون شيرآغا ، على أكتافهم ، نزلنا لأداء صلاة الظهر ، كان هناك مسجد صغير بني جديدا لم يجف بعد ، دخلناه كي نصلي ، فإذا بأرجلنا تغرق في الوحل ، و كان قريبا منا ، رجل خشن ضخم الجثة وعصبي المزاج واقفا ، كان بإمكاننا أن نقرأ و في كل لحظة  عدد ( 111) على قطبات جبهته العابسة ، ملامحه عابسة دائما  ، وجهه القمطرير وعيونه الحمراء ترمي بالقهر والغضب!

أردنا أن نلبس أحذيتنا لكثرة الوحل ، إلا أن هذا الرجل لم يسمح لنا وقال :

هذا الطين طاهر لا تلوثوه بأحذيتكم ، صلوا هكذا .

نفسيته لم تكن تسمح لكثير من النقاش ولم يكن أمامنا إلا امتثال أوامره !

انطلقنا ، كنا نمشي في طريق ضيق على سفح جبل شاهق وعلى يسارنا نهر يجري ، ترتجف عروقنا لشدة البرد .

سمعنا نباح الكلاب يدوي فوقنا مع هزيز الرياح وفرقعتها.

نظرنا فرأينا هناك وفي قمة الجبل كوخا طينيا تتصاعد فوقه خطوط رفيعة من الدخان هنا وهناك .

نعم ! هناك دفء مع أنه معبق بالدخان ، تمنيت أني لو كنت الآن في هذا البيت وتدفأت قليلا ، إلا أن هذا كان مستحيلا .

تقدمنا قليلا وجدنا جسرا من جذوع الأشجار فوق هذا النهر ، اجتزنا الجسر وقطرات المطر بدأت تتساقط علينا، بعد الجسر كانت غابة ملتفة ، اشتد المطر و أربعنا إلى هذه الغابة ، ولكن ماهي إلا لحظات حتى شقت قطرات الغيث من بين فرجات الغصون والأفنان طريقها إلينا ، جرينا تحت عريش عنب كان هناك ، إلا أننا أصبحنا كالمستجير من المطر بالميزاب!  

رافقنا في الطريق شاب من وادي (بنجشير ) وقد قطعت إحدى رجليه من عند الركبة في الجهاد والآن يذهب إلى باكستان للعلاج ، تمنيت أني لو كنت رجلا كبيرا و ذاقوة مثل زملائه وحملت هذا المجاهد الجريح على كتفي وساعدته في هذا الطريق الشاق .

هو كان له أصدقاء كثيرون يساعدونه كما كان يعتمد على عكازه الذي لا يفارقه أبدا.

وأخيرا و في اليوم الثاني ومن هناك اخترقنا الأراضي الرملية والتلال إلى ( انكور اده) .

القائد ح م. قال:

ودع أفغانستان فقد تركناها ورائنا .

فوجئت بهذا الخبر وحزنت كثيرا...

نظرت ورائي بعيون الحسرة والندامة والأسى!

قلت يا ربي هل أعود إلى هذا الوطن مرة أخرى ؟

كنا نمشي في طريق مغبر و إلى يسارنا هضاب منخفضة و إلى يميننا أراضي واسعة ، هناك في وسط الصحراء أطلال قلعة بنتها يد الإنسان في يوم من الأيام والآن مع مرور الأيام والأعوام والقرون تهدمت ، قلت في نفسي:

قد يكون هذا آخر بيت أراه من بيوت أفغانستان الطينية .

أخذني بكاء مر و نحن نرفع آخر خطواتنا على أرض أفغانستان مشيا على الأقدام !

كانت لدي قطيفة و الأفغان يسمونها ( پتو ) كنت أقي بها نفسي من البرد في الطريق .

هنا غطيت بها وجهي كي لايعرف القائد ح م . شيئا عن بكائي !

إلا أن الرجل الذكي أدرك بكائي وسببه ، فدخل في الموضوع من جانبه الآخر ، وبدأ يذكر سيرة المسلمين الأوائل وما لاقوه من تعذيب واضطهاد في سبيل دينهم ، وكيف استخدمت قريش ضدهم جميع أساليب القمع والإرهاب والاضطهاد وسياسة التجويع والمقاطعة حتى ضاق بهم المقام في مكة مما جعلهم يتفكرون في البحث عن أرض آمنة تنجيهم من هذا العذاب الأليم ، فاختار الله سبحانه ، لهم أرض يثرب ، مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم ، دارا للهجرة .

بدأت الهجرة وبدأت معها دوريات التفتيش والجوازات في مكة مهمتها بعرقلة حركة الهجرة وإغلاق المنافذ والطرق المؤدية إلى مكة ومطاردة العصبة المهاجرة من كهف إلى كهف ومن مغارة إلى مغارة ، كما قاموا بسلب الأموال وحجز الزوجات والأطفال ...

وکان من بین هؤلاء المهاجرین مصعب بن عمیر رضی الله عنه ، أجمل شباب مکة ، هاجر بعد أن ذاق التعذیب حتی فی سجن أمه!

کماكان من بين هؤلاء المهاجرين أبو سلمة رضي الله عنه ، قرر الهجرة مع أسرته ، اجتمعت صناديد قريش وتصدوا لهم وانتزعوا منه زوجه أم سلمة وطفلها، جاء أعمامه كي يتفردوا بهذا الطفل ، وقعت خصام وشجار بينهم وتجاذبوا الغلام بينهم ، أخيرا أخذه أعمامه وذهبوا به ،  وأبو سلمة هاجر وحيدا إلى المدينة .

أم سلمة بعد ذهاب زوجها وضياع طفلها في صبيحة كل يوم تخرج إلى بطحاء مكة وتبكي إلى أن تمسي ...

وأنت عندما خرجت من البيت مهاجرا قد حملت على كاهلك حملا ثقيلا ومسئولية كبيرة ، مسئولية هذه الأمة التي تکالب عليها أعدائها من كل صوب ، إن هذه الجادة التي اخترناها جادة مفروشة بالأشواك والعقبات ولا نطلب من هذا إلا ابتغاء وجه الله ورضوانه ، وإن المشوار الطويل ورحلة العذاب والمسئولية الكبرى ستبدأ بعد أن نستقر في أرض الهجرة ، فلا تستسلم لليأس والحزن والندامة والحسرة...

هذه القصص كانت تزيد في بكائي ...

في هذه اللحظة نظرت أمامي وقد وصلنا أنكور أده ، وهاهي باكستان ، التي طالما سمعنا عنها في هذا الطريق الشاق الطويل ، قد فتحت ذراعيها لنا كي تضمنا إلى صدرها .

انكوراده ، هي حدود حرة بين أفغانستان و باكستان وسكانها قبائل حرة لا تخضع لأي حكومة ، كل واحد سلاحه على كتفه .

هنا توقفنا ، القائد ح م. قال:

نحن نمشي إلى بيشاور ، لو تمشي معنا الآن نأخذك معنا .

قلت : لابد أن أذهب إلى كويتا  أولا ومن هناك أذهب إلى بيشاور .

فأعطاني عنوانه وقال :

عندما تأتي إلى بيشاور  فلتأت عندنا حتى نخدمك .

أذكر أن اسم ( ورسك ) أيضا كان من ضمن عنوانه .

فودعناهم بألف صعوبة وصعوبة ، وهم ركبوا حافلات بيشاور وانطلقوا.

( لما دخلت بيشاور كان القائد ح م. قد رجع إلى أفغانستان ، فما رأيته إلا بعد فتح كابل وکان موظفا فی وزارة التعليم والتربية ، قسم التخطیط ، زرته في مكتبه في كابل فاستقبلني بحفاوة بالغة وقضيت ليلة في بيته و كان يخاطبني بصاحبي في الغار ، وأما الآن فلا أدري عنه شيئا ).

هم راحوا وأنا بقيت وحيدا ...

الآن لابد أن يكون عمي موجودا حتى ينهي حساباته مع صاحب الشاحنة وهو غير موجود.

رجعت فإذا ببعض شركاء عمي قد وصل ومعهم الأخ عبدالبصير إلا أنهم أيضا لا يعرفون شيئا عن عمي .

دخلنا مطعما لسكان هذه المنطقة فوجدناه مليئا بالمسافرين ، نحن أيضا أخذنا مكاننا .

أرخى الليل أستاره ، هذه أول ليلة أقضيها خارج أسوار الوطن .

والدي كان يقول أحيانا :

إن تعايشكم في بيت واحد واجتماعكم تحت سقف واحد نعمة من الله تعالى ، والإنسان موجود لا يعرف قدر النعمة إلا إذا فقدها ، وأنا أقول في نفسي : والدنا يهتم بشيء لا يستحق هذا الاهتمام .

وفي هذه الليلة تذكرت كلام والدنا ذلك وعرفت أن كلامه كان صحيحا ، الآن عرفت قدر تلك النعمة‍‍‍‍ .

هناك مسجد بنوه جديدا ولم يكملوه بعد إلا أن الناس بدءوا يصلون فيه وعينوا فيه إماما أيضا وهناك وقريب من المسجد صنابر ماء للوضوء وهي أيضا جديدة ، نتوضأ هنا ونصلي في هذا المسجد .

سكان هذه المنطقة كالشعب الأفغاني يحبون طلبة العلم ، في هذا المسجد مجموعة من الطلبة بين صغار وكبار يدرسون الفقه و النحو و الصرف عند الإمام وأصحاب هذه المطاعم يقدمون لهم الأكل والشرب ، الطلاب يأتون في هذه المطاعم لاستلام وجباتهم الثلاثة يوميا.

المطعم الذي نزلنا فيه صاحبه لا يعرف الفارسية جيدا إلا كلمات قليلة  يقضي بها حوائجه فقط .

بعض الاخوة قالوا له بالفارسية:

نخشى أن أحذيتنا تسرق عندك ، فهو كان يقول :

( امشاالله تاحال كم نشدى وكم نميشد ).

 هو يريد أن يقول :

تااكنون بوت كسى در اين جا گم نشده است واز اين بعد هم إن شاء الله گم نخواهد شد ) أي  ( إلى الآن لم يفقد حذاء أحد عندنا وبعد هذا أيضا إن شاء الله لا يفقد )  

صاحب المطعم لما رأى عندنا بعض الكتب، اعتقد أننا أيضا طلبة العلم ، الآن بدءوا يحترموننا ويقدمون لنا وجباتنا بلا مقابل ، حتى استحيينا وتركناهم واخترنا لنا مكانا آخر .

لا يوجد هنا الهاتف كي أتصل بأبناء عمي في كويتا ، وأخبرهم عن وصولي هنا وأني فقدت عمي لا أدري عنه شيئا .

حيدر ذهب إلى بيشاور ، ونحن لم نشعر وهو عندما يرجع من بيشاور ، الحاج مامي يذهب إلى كرا تشي ، ومن هناك يتصل بأبناء عمي كي يأتوا عندي .

فبقينا عدة أيام هنا ، كل يوم نخرج مع الأخ عبد البصير ونتجول .

إلى الجهة الجنوبية من هذه المنطقة صحراء واسعة ، نخرج إليها ونجلس على الصخور الكبيرة بعيدا عن أعين الناس ونأخذ أطراف الحديث .

السوق هنا مزدحم لأن هذه مدينة حدودية ، هناك مجموعة جاءت لتدخل أفغانستان ، ومجموعة أخرى تذهب إلى باكستان ، و واحد ينتظر وصول زميله والآخر فقد صديقه يبحث عنه و... و ... و ... 

لأجل هذا كثرت المطاعم والدكاكين إلى جهتي السوق .

بعد أيام وصل حيدر من بيشاور ، أول شيء سألته :

هل قابلت القائد ح م. هناك ؟

هو قال :

أوه ، أنا لم أذهب بحثا عن قائد .

تحرك الحاج مامي إلى كراتشي ، حيث يسكن أبنائه ومن هناك أخبروا أبناء عمي عن وصولي بأنكور أده ، فبعد أن مضى علينا أسبوع في أنكورأده ، وصل عبد الهادي ابن عمي الفقيد .

التقينا بعد سنوات من الفراق وجلسنا لعدة لحظات ، ثم قام وأنهى حساباتهم مع صاحب الشاحنات واستأجر شاحنتين أخريين إلى منطقة قريبة من كويتا ، على أمل أن نتحرك غدا في الصباح الباكر .

في مساء هذا اليوم بحثت عن حمام كي أغير ملابسي حيث مازال علي الملابس التي لبستها في أفغانستان في بيتنا وقد مضت علي الآن ثلاث وعشرون يوما !

وجدت حماما للأجرة دخلت واستحممت ولبست ملابسي النظيفة ، خرجت من الحمام وسألتهم

كم أجرة الحمام ؟

كان هناك رجل واقف يظهر أن كل جريمة يتمكن من اقترافها لا يتركها .

قال :

الأجرة ستة روبية باكستانية ، إلا أنه يمكن أن أنزل لك فقط لأجل وجهک الجمیل !

استغربت كلامه ، دفعت الأجرة دون أن انبس ببنت شفه وفي أسرع وقت خرجت وابتعدت منه .

قضينا ليلتنا هنا وفي اليوم الثاني في الصباح الباكر جلست أنا والسائق وصديقه الذي كانا يتناوبان القيادة في شاحنة ، وابن عمي والأخ عبد البصير في شاحنة أخرى وتحركنا .

ومن هنا افترقنا عن شركاء عمي فلم نرهم بعد ذلك اليوم .

طوال اليوم كنا في الطريق ، في منتصف الليل ظهرت أمامنا مجموعة مسلحة ، فجأة صديق السائق الذي كان بجنبي صرخ وهو يقول بالبشتو ( مخ دي بت كه  ، مخ دي بت كه )  يعني غط وجهك ، غط وجهك .

ولم يكتف بهذا بل أخذ القطيفة  التي كانت معي وغطى بها وجهي حتى أصبحت للناظر وأنا تحت هذا الحجاب كامرأة عجوزة في الثمانينات من عمرها .

قطعنا مسافات شاسعة وأنا هكذا .

أخيرا رفعت حجابي قليلا لم أر شيئا فكشفت عنه كاملا ، لم أسألهم عن السبب وهم أيضا لم يخبروني .

في اليوم الثاني وصلنا منطقة (  ژوب ) نزلنا وهنا نستأجر شاحنتين أخريين إلى كويتا ، تجولنا كثيرا .

ثم تركت عبد الهادي كي يرتب أموره وحددنا مكانا كي نتجمع فيه ، توضأت لصلاة الظهر سئلت عن المسجد قالوا المسجد بعيد ، كان هناك بجنب سوق مزدحم حطام شاحنة كبيرة ، صعدت فوقه وصليت ، والأخ عبد البصير أصبح وجهه مغبرا لكثرة التراب والغبار التي كانت فوق هذا الحطام .

 

في صبيحة اليوم الثاني أحضر عبد الهادي شاحنتين وحملوا فيهما البضائع جلست أنا في واحدة وابن عمي في الأخرى وتحركنا صوب كويتا ، السائق عندي رجل مناسب ، آثار الحلم والوقار ظاهرة على ملامحه .

قال لابن عمي :

نحن نستحيي من هذا الأخ  كي نسمع عنده غناء .

قضينا هذه الليلة في الطريق والمطر يضرب الأرض بعنف .

في صبيحة الليلة الثانية بعد صلاة الفجر وصلنا قريبا من بيت عمي .

كان لي عم آخر يسكن هنا وقد توفي قبل سنوات ودفن هنا في أرض الهجرة ، وابنه زوج أختي ، فلما وصلنا هنا رأيت ابنه ينتظرنا ، نزلت والتقينا وخلال دقائق تجمع حولي إخوة كثيرون .

دلنا إلى بيته ، دخلت بيته فإذا أنا أرى أختي التي لم أرها منذ سنوات .

نحن أعضاء أسرتنا کل واحد کان له وشمة سوداء تحت ذقنه، وفی یوم من الأیام لما کنا فی بیتنا وعلی مائدة الفطور ، دارالکلام حول هذه الوشمة، والدنا قال :

لوحدثت حادثة فی البلاد وفرقت بیننا فترة طویلة ، فبإمکاننا أن یعرف أحدنا صاحبه بهذه الوشمة عندما یجده.

هنا لم أعرف أختی فی البدایة وفجئة تذکرت تلك الوشمة وکلام الوالد، فدققت النظر ، نعم ! الوشمة موجودة، وأیضاً تلك الملامح التي كنت قد أنستها وألفتها منذ أيام الطفولة بدأت تلمع من تحت غبار النسيان والفراق .

هي أيضا بدورها فقدت وعيها لما رأتني  ولا تدري ماذا تقول .

جلسنا فإذا أختي تشير كي أقرأ آيات من كتاب الله تعالى و أدعو لعمي المتوفى وأقدم التعزية لأبنائه ، لأني أول مرة أجيئ إلى بيته بعد وفاته .

و هذا طبعا من تقاليد الشعب الأفغاني .

ففعلت ما قالت .

إزدحمت الغرفة بعد قليل .

واحد يسأل عن أخيه والأخرى عن أمها والثالثة عن أختها والرابعة عن ابنها الذي يجاهد في الجبهة والآخر عن المكاسب التي حققها المجاهدون و... و... و...

تذكرت بأنه كان معي كيس كبير وفيه ملابسي وكتبي وهدايا من الوطن لبعض هؤلاء وقد نسيته في الشاحنة .

أخبرت ابن عمي بأني ضيعت هذه الأشياء .

المسكين خرج سريعا وبعد بحث مضني وجدها والحمد لله وأحضرها.

بعد أيام سمعت وصل عمي ، جريت إلى بيته ، فوجدته مستلقيا على الفراش شبه ميت ، شحب لونه ، يفتح عينيه بصعوبة ويتكلم قليلا وبمشقة.

فلنتركه كي يحدث لنا ماذا حدث له ؟ :

في اليوم الذي أنتم تحركتم من ( جار دهي ) كنت متأكدا بأني سوف أتحرك ورائكم إلا أن السائق تماطل ولم يتحرك إلا في اليوم الثاني وقد نزل الثلج أيضا ، تحركنا وقت العصر وصلنا إلى منطقة ما ... قال السائق هذه الليلة نبيت هنا ، مهما حاولنا إقناعه بأن هذا المكان لايناسب المبيت لم يقبل ، فلما أصررنا عليه كثيرا ، مشي قليلا ثم توقف وقال تعطلت السيارة نزل وفتح إحدى كفراتها ورماها بعيدا وقال :

السيارة بحاجة إلى تصليح قد يأخذ وقتا أطول ، إذن غدا نصلحها ، وذهب إلى بيوت كانت تتراءى من بعيد ، وعرفنا في ما بعد أن هناك كان بيته .

نحن قضينا ليلتنا هنا والثلج يمطر علينا ، مضت الليلة وفي الصباح لم يأت السائق مضى هذا اليوم وهذه الليلة أيضا حتى جاء في اليوم الثاني ، انطلقنا ، كنا لم نقطع بعد مسافة تذكر حتى  انقلبت السيارة داخل إحدى حفريات عميقة توجد بكثرة إلى جهتي الطريق كما عرفت ، كل أعضاء جسمي جرحت ، جاء الناس وأخرجونا من تحت السيارة ونقلونا إلى مستشفى المجاهدين ، ضمدوا جروحي وفور تضميد جروحي رجعت ، ووجدت البضائع قد أخرجها الناس من الشاحنة المنقلبة  ورموها فوق الثلوج .

الآن لا يوجد هنا لا السيارة و لاالجمال ولا الحمير كي نستأجرها ، أخيرا استأجرت غرفة ونقلت إليها هذه الأغراض وأغلقت الباب وكان وقت المغرب ، رجعت مشيا على الأقدام إلى ( جار دهي )  من جديد ، وصلت إلى جار دهي ، بعد يومين ومن هناك استأجرت شاحنة روسية أخرى كما أني استأجرت رجلا كي يساعدني إلى هنا ، سلمت كل شيء لهذا الرجل ورميت بنفسي داخل الشاحنة كالميت إلى أن وصلت عندكم .

هذا هو قصة عمي باختصار .

نعم !

وصلت باكستان ، بعد أن قضيت قرابة شهر في الطريق ، إلا أني لا أزال أعتبر نفسي في الطريق لأني أريد الذهاب إلى بيشاور ، التي نعرفها بمدينة الأنصار ، و أحصل علی بطاقة العضوية من الحزب الإسلامی و أنضم إلیهم رسمیا.

تمضي الأيام والأسابيع وقلبي  يحن إلى الأهل والوطن و أتعذب داخليا ، ولوعة الفراق تنمو يوميا في كياني وتثير أشجاني ، ذهبت إلى  مدرسة  مصعب بن عمير لتحفيظ القرآن الكريم ، التي أسست لأبناء المهاجرين ، التحقت بها ، في هذه المدرسة أحس بالغربة والوحدة والوحشة ، لا يسمح لنا بالخروج من بابها إلا مرة في الأسبوع ، مساحتها ضيقة ، كل صباح عند الذهاب إلى الفصل تتسمر عيناي على قمة جبل شاهق نرى شيئا منها من وراء الجدران !

الأيام تمضي بطيئة والساعات حرجة ، لقد أصبحت لي سورة يوسف صديقا حميما ومؤنسا أحتمي إليه وأستأنس به ، أدخل في بدايتها و أخرج من نهايتها ، كأني أعيش لوعة الفراق تلك التي عاشها يعقوب عليه السلام ، والغربة التي عاشها يوسف عليه السلام ، في محنته الطويلة ، وأتنفس في تلك الأجواء ، ثم أقول :

أين أنا من تلك الصفوة المختارة من عباد الله ومن ذلك الرهط الكريم ؟

في يوم من الأيام قرأ الإمام في صلاة المغرب قوله تعالى : فأما من أوتي كتابه بيمينه فسوف يحاسب حسابا يسيرا وينقلب إلى أهله مسرورا.

ارتجف قلبي  وكاد أن يطير ،   وبعد ثلاثة شهور أقاموا حفلة كبيرة للحفاظ ، حضرها المهاجرون والأنصار، ومنحونا شهادة تقدير والجوائز...

بعد تخرجي من هذه المدرسة مرضت واعتل جسمي .

نقلوني إلى مستشفى (سول ) بكويتا ، وقضيت ثلاثة أسابيع في المستشفى .

كانت تأتيني حالات الضيق والكآبة في المستشفى ، أشعر وكأني في سجن يبعد آلاف كيلومترات عن بيتنا ، كل شيء غريب بالنسبة لي ،  لا أعرف لغة هؤلاء القوم ، إلا أن هناك رابطة تربطني بهم و وشيجة تشعرني بأني عجين معهم و هي رابطة العقيدة و وشيجة الإسلام ، و هذه الرابطة و الوشيجة تجعلهم يعاملونني بكل لين و رفق و محبة ، كأني واحد من أبناءهم ،  في مسجد هذا المستشفى أرى أطباء كبارا واقفين مع خدمهم في صف واحد .

سمعت وأنا في المستشفى بأن واحدا من معارفنا يذهب إلى أفغانستان ، قلت في نفسي هنيئا له أفغانستان !

كتبت رسالة إلى والدي و أنا جالس على سرير المرض ، رجوت منه كي يأتي مع أمي مرة عندي ، في حين أنا أعرف أن هذا مستحيل .

كان بجنب سريري رجل مسن كمرافق عند ولده الصغير المريض ، وعنده مصحف طبع بخط كبير لكبار السن ، آخذ هذا المصحف وأقرأ و أقرأ، أشعر بارتياح نفسي عجيب ، سبحان الله ! ‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍ وكأني لأول مرة أقرأ القرآن ،  لا يزيل هذا الغم والهم من قلبي إلا تلاوة كتاب الله .

فلما خرجت من المستشفى ، إشتريت شنطة وجمعت أغراضي وملابسي وكتبي ووضعتها فيها و وضعت الشنطة على كتفي وبمغامرة عجيبة تحركت صوب بيشاور ...متوكلا على الله.

في الطريق إلى بيشاور ،  في منتصف الليل وصلنا منطقة اسمها ، كشمور ، تقع في مقاطعة السند ، بباكستان، نزلنا لأداء الصلاة وشرب الشاي ، كنت جالسا على سرير وضع في ساحة المقهى مع رجل مسن تعارفت معه في الطريق ، فجأة وجدت نفسي محاصرة من قبل مجموعة مسلحة ، كل واحد منهم له شارب يغطي فمه وعنده سلاح من طراز قديم ، ملابسهم كملابس قبائل البدو في مقاطعة السند ، أصحاب القتل والسلب والنهب والخطف والسطو ، ينظرون إلي بعيون مخيفة ورهيبة ، وكأنهم ينتظرون ساعة الصفر للانقضاض علي و اختطافي ، حتى أدركت أن واحدا منهم مرات أراد اقتحام السرير والهجوم علي .

الجماعة الإسلامية التي أسسها أبو الأعلى المودودي رحمه الله ، لها مكانة عظيمة عند الشعب الباكستاني ،  وأمثال هؤلاء اللصوص والمنحرفين أخلاقيا يخافون منهم ،  فبدأت أقرأ بعض الآيات والأحاديث بصوت مرتفع وأترجمها لصاحبي كي أثبت لهؤلاء بأني أنتمي إلى هذه الجماعة وأنكم لو خطفتموني ستجدون ما تستحقونه ، وقراءة الآيات والأحاديث والاستدلال بها أثناء الكلام هو العلامة التي يعرف بها أعضاء الجماعة الإسلامية في باكستان ، خلال هذه اللحظات نزلت من السرير متسللا وكانت الحافلة واقفة أمامنا ، صعدت الحافلة و أغلقت الباب من الداخل والأنوار كانت منطفئة داخل الحافلة ، رأيتهم وهم يطوفون حولها وآثار الندم ظاهرة على ملامحهم ، كأنهم خسروا صيدا ثمينا .

بعد قليل جاء السائق وبدأ يضغط على رنين الحافلة بشدة كي يجمع الركاب ، تجمع الركاب وانطلقنا ، حمدت ربي بأن نجاني من هذه الكارثة ...

دخلت بيشاور ، أرض الغربة وديار الوحشة ، مدينة الجوع والعطش ، أجواء يملئها الهم والغم والحزن ، وقت الغروب يصفر الوجه وتغورالعينان...

هذه هي قصة هجرتي ، وسواء أهي حلوة أو مرة فهي هجرة ، وأدعو الله رب العالمين أن يتقبلها مني ، وكنت قد كتبتها بالفارسية وهاهو بعد مرور الأيام والسنين تعلمت اللغة العربية فقمت بنفسي بإلباسها الثوب العربي.

                                                            والسلام عليكم ورحمة الله

تبصره / نظر

نظرات / تبصري

د همدې برخي څخه

شریک کړئ

ټولپوښتنه

زمونږ نوي ویبسائټ څنګه دي؟

زمونږ فيسبوک